علي الوردي ومركزيَّة الشّعر في الثقافة العراقيَّة

ثقافة 2023/11/01
...

 د. عبد الجبار الرفاعي

  لم أقرأ لعالم اجتماع باللغة المتداوَلة في كلام الناس ومحادثاتهم اليوميّة في مختلف القضايا كعلي الوردي، يكتب بهذه اللغة وهو لا يكف عن الإثارة والتحرّش بتابوات الدين والأيديولوجيا والعشيرة والسلطة ومؤسساتها المتنوعة. ويتحرش حتى في انتخاب عناوين كتبه، التي يختارها وكأنها لافتات تحريضية، مثل: «وعاظ السلاطين»، «أسطورة الأدب الرفيع»، و»مهزلة العقل البشري».  علي الوردي يتقن مهارة إنشائية ينفرد بها، فهو يكتب في السوسيولوجيا والأنثربولوجيا والسيكولوجيا، يصف ويحلل وينقد مختلفَ الظواهر في المجتمع العراقي بأسلوب مباشر، يفهمه كل الناس، بما يسوقه من أمثال وحكايات وفلكلور، بلغة لا تخلو من تهكم وسخرية لاذعة أحيانا،كأنه يتحدث في مقهى قديم يدمن رواده الإصغاء له بوصفه قصاصا. يختتم الوردي مقدمته لكتابه «أسطورة الأدب الرفيع» متهكما بقوله: «وصف أحد الأدباء كتبي السابقة كجبة الدرويش ليس فيها سوى الرقع. وأظن أنه سيصف كتابي هذا بمثل ذلك. ولست أرى في ذلك بأسا، فخير لي أن أكون رقاعا أخدم الناس بالملابس المهلهلة، من أن أكون خياطا ممتازا أصنع الملابس المزركشة، التي لا تلائم الأجساد ولا ينتفع بها أحد».

  لبث الوردي غريبًا، يرفضه المجتمعُ، ولم تتفاعل أيديولوجيات اليسار الأممي والقومي والأصولي مع أفكاره في وطنه. تجلّت غربةُ علي الوردي الأقسى بحضوره في هذا اللون من الثقافة العراقيّة، ثقافةٌ يتمركز كلُّ شيء فيها حول الشعر، ثقافةٌ متيمةٌ بالشعر إلى الحدِّ الذي قلّما تحتفي فيه بمعرفةٍ أو فكرٍ أو ثقافةٍ لم يمسسها الشعر، ولا يندرج في اهتماماتها أيُّ صاحب منجز فكري إن لم يكن أديبًا وشاعرًا، وغالبًا ما لا تصنّفه على الثقافة، وربما تبخل عليه حتى بعنوان «مثقف»، ولا يدخل في اهتمامها وندواتها ومنتدياتها ومهرجاناتها من لم يكن شاعرًا، أو عاشقًا أو صديقًا أو متذوقًا للشعر والأدب، حتى صار احتكارُ عنوان المثقف في العراق بالشاعر كاحتكار الخلاص في الفرقة الناجية.

لم يكن علي الوردي شاعرًا، ولم يُعرف عنه ارتيادُ منتديات الشعراء، ولم يكتب مديحًا لشعر أو شاعر، حتى تعاطي الشّواهد الشعريَّة شحيحٌ جدًا في كتاباته،كان على الضدِّ من توثين الشعر والأدب وتسيده في الثقافة العراقيَّة. الوردي سبق من قبله، ولم أقرأ لأحد جاء بعده في الثقافة العراقيَّة، مَن يتجرأ على نقد الشعر بأسلوبٍ تهكمي في: «أسطورة الأدب الرفيع»، إذ يكتب تصديرًا لكتابه هذا بقوله: «أهدي كتابي هذا إلى أولئك الأدباء الذين يخاطبون بأدبهم أهل العصور الذهبية الماضية، عسى أن يحفزهم الكتاب على أن يهتموا قليلًا بأهل هذا العصر الذي يعيشون فيه، ويخاطبونهم بما يفهمون، فلقد ذهب عهد الذهب، واستعاض عنه الناس بالحديد!». لا يكفّ الوردي عن نقدِ الشعر القديم والدعوةِ لتجاوزه، بوصفه مرآةَ العصر الذي أنتجه بكلِّ ما يحفل فيه. بلغت الجرأةُ به أن يزدري «طريقة الاستجداء لكسب العيش»، وطريقة تكسّب بعض الشعراء، ويعلن بصراحة: «إنهم شحاذون، ويدّعون بأنهم ينطقون بالحق الذي لا مراء فيه، والويل لمن يجرأ على مصارحتهم بالحقيقة المرة أو تكذيبهم فيما يقولون».    

لم ينشغل الوردي بنقاشاتِ وردودِ التهم المُثارة ضدّه، وثرثراتِ الوعّاظ الذين أغاظهم كتابُه «وعّاظ السلاطين» وكتاباتُه الأخرى، ولم يكترث بهذر بعض الأدباء والشعراء الذين امتعضوا من كتاباتِه المثيرة عن الشعر، وسخريتِه بـ «الأدب الرفيع». 

في حالات استثنائية كان يصغي لبعض الباحثين الجادّين، كما فعل مع عبد الرزاق محيي الدين، الذي كتب نقدًا لآراء الوردي في الأدب، فأجابه بسلسلة مقالات نشرها في كتابه: «أسطورة الأدب الرفيع». يشير الوردي إلى قصة تأليفه كتابه «أسطورة الأدب الرفيع» فيقول: «بدأت القصة منذ بضعة أشهر، حيث كنت قد نشرت في جريدة الحرية بعض المقالات، نعيت فيها على الأدباء تمسكهم بالتقاليد الأدبيّة القديمة، وقلة اهتمامهم بما يحدث في هذا العصر من انقلاب اجتماعي وفكري عظيم. فهب الأدباء من جراء ذلك هبة واحدة، وأخذوا ينتقدونني ويتهجمون، ويصولون ويجولون. فلم أجد بدًا من الرد عليهم بمناقشة الآراء التي جاءوا بها... ولسوف أقتصر في هذا الكتاب على إعادة نشر مقالات الدكتور محيي الدين وحدها، تلك التي نشرتها في جريدة البلاد، وكان لها صدى بين القراء لا يستهان به. ومقالات الدكتور هذه، والحق يقال، من خير ما كتب في الموضوع. فهي تمثل وجهة نظر جديرة بالدرس والعناية. وأحسبها لا تخلو من أصالة».  كلُّ شيء في الثقافة العراقيَّة متمركزٌ حول الشعر. سرق اغواءُ الشعر أثمن المواهب في جيلنا، ومازال مقبرة للأذكياء، فجيل الأبناء لم يتحرر كليًا من غوايته. لا نحتاج إلى المزيد من هذا اللون الزائف والكتابة الغزيرة فيه وعنه، الذي يسمى خطأ بـ «الشعر»، وهو ضربٌ من الهذيان اللفظي. أغلبُ ما يُكتب ويُنشر عن الشعر تكديسُ كلامٍ على كلام، وليس شعرًا بالمعنى الذي تتكشّف فيه رؤيا مبدِعة، ومعرفةٌ مكتنزة، وبصيرةٌ مُلهمة. نادرًا ما نقرأ اليوم شعرًا يلوح لنا فيه أنه يختصر معرفةً في جملة، وصورةً في عبارة، وجمالًا في لوحة. 

 بلغ اغواءُ الشّعر أن تتمركزَ الثقافة العراقيَّة حوله، وأن تستندَ إليه كمرجعية ومعيار في خلع لقب «مثقف» على كلِّ مَن ينشر شعرًا، بنحو استنزف عقولَ ومواهب شباب مؤهلين للعطاء الثمين في مجالات أخرى. أوقع إغواءُ الشعر هؤلاء الشباب، ممن يفتقرون لموهبة الشاعر، في محاولات للتجريب المتواصل للقصيدة بلا جدوى، من أجل أن تسجل اسماؤهم في لائحة الشعراء. حتى اليوم لم يسجل الشعرُ العربي، فضلًا عن الشعر العالمي اسما لأحد من هؤلاء، على الرغم من ضياع أعمارهم في اللهاث وراء صنعة «شاعر».كان يمكن لهؤلاء أن يبدعوا في الرياضيات أو العلوم الطبيعية أو الفلسفة والعلوم الإنسانيَّة أو الآداب والفنون الأخرى.   «مركزية الشعر في الثقافة العراقيَّة» الحديثة رسخها الدورُ الطليعي للعراق في تدشين الحداثة الشعرية، بولادة الشعر الحر في أربعينيات القرن الماضي في قصائد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وغيرهما؛ ما عزّز اختزالَ الثقافة بالأدب خاصة، والمثقف بالشاعر.كلُّ مَن يحلم أن يكون مثقفًا ينبغي أن يكون شاعرًا أولًا وقبل كلِّ شيء. اتسع فضاءُ الكتابة الشعرية لمن لا يمتلكون موهبةً، وأغوى الأذكياء الذين يمتلكون مواهبَ في غير الشعر، ممن تعِدُ مواهبُهم بولادة مثقف كبير، لو شاؤوا أن يتكونوا تكوينًا علميًّا صبورًا. طغيان الشعر في ثقافتنا انتهى إلى تسيّد الكلام وضمور الأفكار، واختباء العقل والغرق في الإنشاء وتكديس الألفاظ. الكلام سلطة، غالبًا ما يوظّف بديلًا لبراهين العقل وحججه في الاقناع والوثوق. الشاعر يمتلك مهارة استثمار هذه السلطة لتسويق وترسيخ أية عقيدة أو أيديولوجيا أو مقولة أو اسطورة، وإن كانت مناهضة لأحكام وأدلة العقل، وحتى بداهاته أحيانًا.  

 انشغلت الثقافةُ العراقيَّةُ ببعضِ شعراء القصيدة العمودية إلى الحدّ الذي صارَ فيه كلُّ من يطمح أن يكتسبَ عنوانَ مثقف عليه أن يحفظَ بعضَ قصائدهم المحاكية لشعر العصر العباسي، ويكتبَ عنهم. لم يحضر بدر شاكر السياب كحضور هؤلاء الشعراء، وكأن السيابَ عوقب لأنه تجرّأ على التمرّد على ميكانيكية القصيدة العمودية فكسر تصلبها، ولأنه انتقل بالشعر العربي إلى أفقِ العصر، وذوقِه الفني، ولغتِه الرمزية، وكثافةِ معانيه، واتساعِ رؤيته.

الإصرار على القصيدة العمودية يعكس ميكانيكيةَ العقل وتصلبه، وعجزَه عن الإصغاء لديناميكيةِ شعر السياب وأنسي الحاج، وأمثالهما، والعجز عن تذوق تناغم إيقاع هذا الشعر مع لغة ورؤية العصر. تسيّدُ الرؤية التراثية وتسلطُها على اللاشعور الفردي والجمعي هو الذي يجعلنا لا نتذوق إلا قصيدةَ الأزمنة القديمة الغريبة على زماننا.

 لا أتبنى كلَّ ما يراه الوردي في الشعر، وليست لدي مخاصمةٌ مع ما هو حقيقي منه، ولا تصفيةُ حسابٍ مع شاعر، وأنا المولع بذلك اللون من الشعر، الذي وصفه هايدغر بقوله: «إن الشعرَ تسميةٌ مؤسِّسة للوجود ولجوهر كلِّ شيء، وليس مجردَ قول يقال كيفما اتفق».

 أخيرًا بدأت الثقافةُ العراقيَّةُ تنفتحُ على الرواية بجدّية وغزارة، وهو تحوّل في الاتجاه الصحيح. ‏الروايةُ الحقيقية تتسع لكلِّ الأجناس الكتابية، وتتغذّى من مختلف المعارف البشرية، الروايةُ الخالدة هي ما تكشف للقارئ أعماقَ الإنسان، وتفضح تناقضاتِه الداخلية. الروايةُ تُفتضح فيها تابواتُ المجتمع، وما تخفيه الأعرافُ والتقاليد والثقافة المحلية، وتفسّر فاعليةَ الهويات المغلقة وتسلطَها، وأثرَها في الثقافة والسياسة والعلاقات الاجتماعية، وأثرَ المخيال في الثقافةِ الجمعية، وأنماطِ التدين وتمثلاتِ الدين المتنوعة في حياة الفرد والجماعة، وينقِّب الروائي الحقيقي في أرشيف اللاشعور الجمعي، والمستور الذي يتكتم عليه ظاهرُ العلاقات في العائلة والمجتمع والدولة، والأهداف المضمَرة للسلطات السياسية والدينية والحزبية والعشائرية.