أدب الترحال والتماهي بين السردي والمعرفي في (رمية النرد الأخيرة)

ثقافة 2023/11/01
...


د. سمير الخليل



تضعنا تجربة الكتابة في أدب الترحال للكاتب الروائي محمد سعدون السباهي وكتابه الموسوم بـ(رمية النرد الأخيرة) الصادر عن دار لارسا- بغداد، 2019 إزاء مغايرة وتجاوز لما هو تقليدي وسائد في مثل هذه التجارب التي رسّخت فكرة التدوين والوصف بنزعة تقريرية ومسح جغرافي وإحصائي محض يخلو من الروح المتدفِّقة والحس الجمالي والمعرفي فأدب الترحال أو الرحلات ليس مجرد توثيق جغرافي وتقارير خبرية بقدر ما هو أدب إنساني عميق كونه يتخذ من الإنسان محوراً ومنطلقاً له... الإنسان بكل أبعاده التاريخية والسوسيولوجية والسايكولوجية وبكلّ طقوس المجتمعات وسحر الطبيعة والأمكنة وما تتيحه المسافات من تأمل ورصد ومفارقة وإدهاش ويبقى وفق هذه المعايير الجمالية الروائيون هم الأقدر على الاقتراب من هذا الجنس الإبداعي الصعب والذي يتطلب ملكات وإمكانيات ليس من السّهل حيازتها.

العنوان جاء دالاً ورامزاً ليحيل إلى أنَّ ما جاء في هذه الرحلات هي آخر مغامرة أو لم يبق من العمر متسع لشباب يعيش الرحلة بروح المغامرة والتحدّي والنشاط، والنرد هو لعبة حظ لا يحددها اللاعب إنما تأتي برمية قد تصيب وقد تخيب وتلك أقدارنا، ويستثمر السباهي قدرته الإبداعية وخزينه المعرفي في (رمية النرد) زاوج فيها بين سحر السرد وعمق دلالة الأبعاد التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية لتشكيل نمط من الكتابة ينضوي تحت تجنيس رواية الرحلة، فهو يجمع ببراعة بين السرد الروائي والتوصيف المكاني الفني وشعرية اللّغة والنقد وعمق المعلومات والتحليل والتأمل والمقارنة بين الأمكنة والبيئات والمجتمعات والأفكار في رحلة فكر متّقد ورؤية متقدمة وجريئة فضلاً عن عفوية صادمة أحياناً لما تحمله من تشخيص وإدانة لما يجري في المدن التي زارها من ظواهر سلبية ومساحات التأزم والنكوص وإدانة الأفكار المؤدلجة وبيروقراطية الأنظمة ونقد الاستبداد بكل ظواهره وأنماطه.

ويصف السباهي في الاستهلال مدوّنته المثيرة فيقول: ”مادة هذا الكتاب مجموعة انطباعات صادقة على الرغم من صفحاتها الصادمة خرج بها الكاتب من خلال هروبه المتواصل وهو ممسك باقتتال على فراشة روحه وهي في نزعها الأخير.. بسبب ثقافة القتل الأعمى (ولغونة) الساسة الخلب، والبيئة (الزفت)، يضاف إلى هذه الكوارث ظاهرة المحللين الداجنين والفضائيات المشبوهة والصحافة الصفراء، إذ انفجر بين ليلة وضحاها هذا الخليط المريب انفجار الفطائس.. الرحلات شملت مدن دمشق، عمان، القاهرة، كردستان، وبعض المدن التركية”. (رمية النرد الأخيرة، ص5).

يمزج السباهي بصورة باهرة في تضاعيف كتابهِ بين الحس الذاتي – التأملي – التحليلي والانتقادي وبين موضوعية التوثيق والتوصيف والسرد الذي يثير المتع إلى جانب اسلوب التشويق والاهتمام بمساحات وتجليات الجمال وولعه بوصف المرأة والفنون والحدائق وحركة المدن وإيقاع الثقافة وجوانب الرقي الإنساني فهو لا يكتفي بالتوثيق والرصد المجرد الذي عهدناه في مثل هذه التجارب حتى أن أدب الرحلات يكاد ينتمي إلى نوع من كتب الجغرافية أو التاريخ أو الكتابات الأنثروبولوجية البحتة سابقاً لكنه استطاع أن يعيد صياغة مشروعه ضد التجنيس النمطي أو ضد الكتابة والتدوين التقريري البحت مما أضفى على التجربة عمقاً ودلالة وجعل مدوّنته تمتلك الثراء وتعدّد مستويات السرد والمثاقفة انطلاقاً من “أن المشاعر التي يفجرّها السفر عند الرحالة قديماً وحديثاً ليس من اليسير حصرها في كلمات معدودة.. إذ السفر لديهم هبة إلهية عظيمة، خصّهم بها الرّب دون غيرهم من العالقين طوال سنوات في محيطهم مثل دجاجات منتوفة الرّيش يقوقئن من دون توّقف”. (ص7).

بهذه الرّوح يحمل السباهي حقيبته وعقله المتوقد ليصف لنا تجربة الإندساس والتلصص الجمالي على حياة المدن والمكسوت عنه وعناصر الجمال والأسرار والمفارقات ليقدّم مادة تمزج الجغرافية بالتاريخ والفن بالسياسة والجمال بالمرأة والعادات واليوميات تحت ضغوط الأنظمة والإيديولوجيات والتنوير والتخلّف في توليفة متعددة الأبعاد ووفق رؤية إنسانية تمزج بين السّرد والتوثيق والمعرفة والنقد، والسفر أو الترحال ليس مجرد انتقال في وسائط النقل والمطارات إنّها رحلة وتجربة وكشف واكتشاف وتحريض ووسيلة لتوكيد القيم الجميلة والطقوس الباهرة وتسجيل منحنيات القلق الوجودي وما يثيره المكان والزمان من تجليات ومفارقات ليعرف الإنسان في أي زاوية يعيش. وكما أرى ووفق معاينة إجناسية ووفق الوعي بأنماط الكتابة أرى أن أسلوبية وتوجهّات السباهي تنبئ عن أدب يتجاوز ما هو تقليدي في أدب الرحلات باتجاه أدب ينطوي على المثاقفة والتحاور وإشاعة نزعة النقد الثقافي وبحثه الدائب عن المضمر والمترسب من الظواهر والقيم وإشكاليات المفارقة بين أنماط الشعوب والأمكنة والثقافات.

يستهل السباهي كتابه وفق توجهّات هذه التوليفة بقصيدة شعر نقتطع منها:

الشيخ المرح أنا...

مهرّب الابتسامات الذي يوّد لو جاء للحياة..

على هيئة طائر لئلا تصدّه الحدود وبنادق السفلة

المنشغل بتغير أصوات القطارات غناءً أم نحيباً.

الراقص على الطرقات مثل حقيبة يهدهدها الموج

×     ×     ×

ذو الأحزان المبكرة الذي هشمت الحروب

الهمجية مرايا أصدقائه.

فراح يبحث عنهم في حانات المدن البعيدة

هذا الشيخ المرح أنا... (ص10).

بهذا الشغف وبهذه الكيفية ونسقها الثقافي والسياسي والسوسيولوجي ينظر السباهي إلى المدن والسفر والمطارات والقطارات والمطر والنساء والطقوس والعادات، ليس النظر من ثقب الباب كما فعل بطل رواية (الجحيم) (لهنري باربوس) بل يتطلع وفق رؤية تتسع دوائرها رصداً وكشفاً ومتعة ومعرفة مؤطرة بهاجس الأدب والجمال ومواطن وشواهد الرّقي.

ينبهر الكاتب بجمال مدينة (باليكسير) التركية وتدهشه طقوس المقهى والنساء “في المقهى رأيت نسوة من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية يلازمْن الجلوس فيها من الصباح وحتى التاسعة مساءً”. (ص13). “هاربات من شيء ما أو خطر اسمه البيت... يسرفن بالتدخين ويكثرن من احتساء الشاي والقهوة والمهاتفات”. (ص13).

يلتقط الظواهر والمفارقات إذ يقول: ((في واحدة من جولاتي المسائية في (باليكسير) شاهدت عجوزاً في الثمانين من عمره يرتدي بدلة جنرال أنيقة، وقد غطت الأوسمة والنياشين الملونة معظم صدره يدبّ مثل سلحفاة فيهرع أصحاب المحال والمارة لإعانته على ارتقاء الرصيف...)). (ص25).

يحفل المارة بهذه الشخصية الغرائبية ويلتقطون معه الصور ويكرمونه وهو يعيش في زهو وكبرياء ويتحدث عن هموم وبيرقراطية المطارات في فصل (لصوص التقوى) ويرصد القوانين والتعليمات والمتاعب التي يتعرض لها المسافرون.

ويفرد فصلاً كبيراً من منطلق رصده وتحليله حول خريف الدولة العثمانية في فصل أسماه (نهاية الدولة العثمانية) أورد فيه الكثير من المعلومات التاريخية والتحليل السياسي لسقوط امبراطورية الترك وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى وتأثير هذا السقوط الدراماتيكي في الشرق والغرب عموماً وفي وضع تركيا كدولة وتاريخ وشعب أزاء هذا المفترق المفصلي ويستغرق في وصف المساجد لاسيما في مدينة إسطنبول والكنائس ويصف سوق (البازار):

“وتقع سوق البازار وهي أكبر أسواق تركيا وأهمها إنها متاهة أكثر مما هي سوق، لذا يتوجب على من يزورها أن يكون يقظاً منتبهاً بحيث لا يسمح لقدميه أن تقودانه إلى جهة تصعب العودة منها..!”. (ص63).

ويظل يستغرق في وصفه الشعري للنساء في مدينة اسطنبول ويطلق عليهن وصف (غرانيق إسطنبول): “وجوهن فتية باسمة وأنيقة مشرقة وناعمة وطرية تبدو للرائي الحصيف مغطاة بغلالة رقيقة من شبق لا تخطئه العين، وشفاه زنجية معتدلة بامتلائها أظهر صبغها بالأزرق الغامق”. (ص79).

ثمة فصل شائق يتحدث فيه عن كردستان الطبيعة والمجتمع والعمران ويتحدث عن جمال كركوك وأربيل وسحر الجبال ولا يفوته الحديث عن هموم الوطن وإشكاليات الواقع السياسي بعد الاحتلال.

“أول ما أثار انتباهي في أربيل حركة البناء أو قطاع السكن خصوصاً إذ أينما ذهبت تشاهد الأحياء العصرية والعمارات بشققها الأنيقة تنهض مغطية مساحات من الأراضي المحيطة بالمدينة”. (ص98).

ثم يروي فصلاً حزيناً عن رحلته إلى عمّان عاصمة الأردن.

“غادرنا إلى عمّان على أمل إعادة فتح ملفي السابق لدى مفوضية شؤون اللاجئين هناك من جديد أضف إلى ذلك أمنية العثور على أدباء عراقيين استوطنوا عمّان بعد أحداث 2003 غير أن أملنا في المسألتين خاب تماماً.. “ (ص107).

هذا التوثيق اليومياتي والتاريخي لظاهرة اللجوء السياسي ومعاناة الانتظار والسنوات الطوال للانتظار يعرضها لكي تترسخ هذه الوقائع في متون التوثيق التاريخي والسياسي لهذه المرحلة الحرجة من التاريخ.. وفي الكتاب تسجيل لهموم الهجرة ومكابدتها والتحدّث عن أسبابها ووصف المناخ واختناق المشاعر فليس ثمّة أصعب من أن يهجر الإنسان كينونته ووطنه وذكرياته ليلقي بنفسه في مطارات ومدن مجهولة ويفرد فصلاً جميلاً لرحلته إلى سورية ويصف المدن والقرى والأوضاع التي لا تخلو من تعقيد ومعاناة وصعوبة العيش ويصف إلى جانب ذلك جمال الطبيعة وسوق الحميدية المثيرة وحركة الناس وجمال التأمل. وفي دمشق أعدت فتح ملفي لدى مفوضية شؤون اللاجئين هناك لكنني وجدت إجراءات طلب اللجوء قد أخذت منحى آخر، تكاثرت أعداد اللاجئين ومن ثم فإننّي مهما بكَّرت بالذهاب إلى المفوضية فلن أحظى بالدخول)). (ص129).

ومن أجمل فصول الكتاب ما تحدّث فيه بتفاصيل أخّاذة عن رحلته إلى مصر ووسم الفصل بعنوان مثير هو (من قال مصر أم الدنيا)؟؟؟ (ص132).

يتحدث عن جمال مصر والأهرامات والزحام والفن والصحافة لكنّه ينتقد بعض الظواهر السياسية والاجتماعية لاسيما ظاهرة الفقر والانحسار الاقتصادي التي تفرز الكثير من المشاهد والمفارقات ويتساءل “لماذا تحيط بالإنسان المصري المشكلات ووتراكم عليه الأزمات من دون حلول ناجعة”. (ص135) “مصر العشوائيات شاهدتها بأم عيني، مصر العمارات السكنية التي طالما سمعنا بانهيارها ودفن العشرات من سكنتها الغلابة تحت الأنقاض مصر الزحام، زحام المواصلات وما أدراك ما زحام المواصلات؟”. (ص136).

من أجمل وأعمق انتباهات السباهي وهو يتصدى للواقع الطبقي ويشرح أبعاده السياسية التي حوّلت المجتمع العربي والمصري على وجه التحديد إلى هذا الحد من النكوص والتراجع وينقد الواقع الثقافي ويدين ظاهرة السينما التجارية المنفصلة تماماً عما يعانيه المجتمع المصري من أزمات وهموم ويستغرق في تفاصيل المسكوت عنه.

ويضئ إشكالية السينما التي تتحدث عن واقع المرأة فيقول :”لقد فشلت هذه الأفلام في تصوير مشاعر المرأة المصرية – العربية وانفعالاتها النفسية الحقيقية حين أغفلت دورها التنويري في الأحداث الاجتماعية والسياسية المعاصرة مكتفية بالتركيز على الجوانب السلبية كقدر لا مفرّ منه إذ قدمتها مدفوعة بهوس نحو الشخصيات السادرة في الضلال”. (ص151).

وفق هذه التوصيفات والاستشهادات والغوص في عوالم المدن والمطارات واختلاف الشعوب وهموم المجتمعات وأزمات السياسة والثقافة ينقلنا السباهي في لغته الشفيفة وتركيزه على دراسة وتأمل الظواهر الإنسانية ليصوغ (بانوراما) مشهدية تحفل بسحر السرد مقروناً بالبحث في عوامل التاريخ والجغرافية والصراع بمختلف أشكاله في عالم يعيش على سطح ساخن.

أدب الترحال عند السباهي عبارة عن كتابة مضادة وكتابة تثير الأسئلة وتحفر في عمق الوجود الإنساني وترسّخ لمفهوم الكشف والمواجهة.