يوسا يخلي الساحة السرديَّة للكتاب {الفشلة}

ثقافة 2023/11/01
...







محمد جبير





لماذا اتّخذ الكاتب البيروني ماريو فارغاس يوسا “1936م” قرار التخلّي عن الكتابة الروائية، وهو الكاتب الفائز بجائزة نوبل للآداب في العام 2010؟ ولمَن أهدى صمته هذا؟ كيف يمكن للمتلقّي أن يستقبل هذا القرار المفاجئ بعد أن طافت روايات يوسا في دول العالم المختلفة، ووجدت لها حيّزاً في مكتبات الكُتّاب والقرّاء في لغات مختلفة قبل أن ينال نوبل، وبعد ذلك الحدث الأدبي الكبير الذي أضاف لشهرته الكبيرة شهرة أخرى، ليضيء أبعد الزوايا المظلمة في أرجاء الكون الواسعة، وقبل أن تضيء تلك الأعمال الروائية المبدعة المناطق المظلمة في زوايا العالم، فإنّها أضاءت جوانب في زوايا روحنا المظلمة، وبدلت ظلمتها نوراً يبعث المتعة والدهشة والسحر السردي المنساب في ثنايا تلك النصوص من نصّ إلى آخر، ويتجدّد من قراءة إلى أخرى.
حفر هذا الكاتب اسمه على جدران مكتبات العالم، واحتلّ حيّزاً مهمّاً من ذاكرة اهتمامات المتلقّي، حيث تفاجأ جميع القرّاء بقرار الصمت عن الكتابة السردية في عزّ تألّقه ونجاحاته الإبداعية والاهتمام العالمي بنتاجاته السردية أو كتاباته السياسية، في حين يعجّ عالم الكتابة السردية اليوم بأنصاف الكتاب في كتابة السرد، وتحديداً السرديات الروائية، التي صارت ميداناً سهل الولوج منه إلى المجتمع الثقافي، والتلاسن بصوت عالٍ مع المبدعين من كُتّاب هذا النوع من الإبداع الأدبي، فقد شوّه هؤلاء الدخلاء الذين جاؤوا إلى الوسط الثقافي الصورة الجمالية، مستثمرين فضاء الحرّية الواسع وغياب الرقابة والرصد الإبداعي لهذه النصوص الهامشية، ليعلو ضجيج أصواتهم النشاز على الأصوات الإبداعية الرصينة، وكذلك أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في نفخ الهواء في هذه البالونات الفارغة التي سرعان ما تنفجر في وجوههم.

الأسباب التي دفعت يوسا إلى اتّخاذ قرار الصمت، هي ذاتها التي تدفع مبدعين كباراً إلى الشعور بعدم جدوى الكتابة في هذا الوضع الراهن الذي تتكدس فيه كتابات الكُتّاب “الفشلة” أكواماً من الورق على أرصفة بيع الكتب، والتي يعزف المتلقّي الجاد عن النظر إليها، وإنّما تذهب نظراته تبحث عن العناوين الجادّة والأسماء المعروفة بجدّية منجزها، والتي يغطّي غبار هذه الكتب الهشّة والهامشية على أغلفة تلك الكتب الجادّة، لكن ما هو جادّ يبقى يلمع كالجواهر مهما كثر الغبار من حوله، وتبقى اليد الباحثة عن الجيد تبحث عنه وتلتقطه وتزيح عنه الغبار مهما طال الزمن.

اليد الباحثة عن النصوص الجيدة هي التي تزيح شعور اللا جدوى لدى المبدع، وإن كانت هذه الإزاحة مؤقّتة، فهي في أقلّ احتمال رشقة منعشة لمطر دافئ ينعش يباس الروح، ويفجّر ينابيع الإبداع، هذا الصراع، أو قل، هذا الانتاج الإبداعي في زمن فوضى الكتابة وتنافس الهشّ الهامشي مع الإبداعي الرصين هو حالة طبيعية في المكوّنات الاجتماعية التي تعيش صراع النموّ والتشكّل لخلق صورة مجتمع متماسك، أو يبحث عن تماسكه في إيجاد مرتكزات وثوابت مشتركة تساعد على اكتشاف صورة إيجابية للحياة، ورسم أفق للمستقبل يتّفق عليه الجميع، هذا الاشتراك والتوافق والإجماع على هو إيجابي يمكنه أن يخلق الحافز الإبداعي لإنتاج ما هو مفرح ومشرق وممتع في ظلّ عتمة وظلمة ووحشة الهشّ الرديء.

لم يكن يوسا، وهو يعيش لحظات زهو استمتاعه بما يحظى به نتاجه السردي من اهتمام عالمي، وما تلاقيه كتاباته من صدى إيجابي في جميع المحافل الدولية، وما يحظى به على المستوى الشخصي من اهتمام عالمي ،  لم يكن ليضع كلّ ذلك وراء ظهره، ويتّخذ قراره بالصمت، وهو صمت إبداعي له دلالاته ومعانيه، وهو أيضاً درس تربوي وعملي وإبداعي للكُتّاب الآخرين الذين يرون في أنفسهم أنّهم قدّموا ما يخدم الإنسانية، ويجعل الحياة فيها أكثر جمالًا وإشراقاً، فالباحث عن الجمال في وحشة الواقع وخرابه لا يرغب أو يحبّ أن يكون مساهماً في قبح الواقع، وإنّما يعيد صياغة هذا القبح جمالاً إبداعياً لكي يجعل من الحياة فرصة متاحة للعيش لا فرصة متاحة للتعاسة والموت، فهؤلاء الكُتّاب الذين ينظرون لحرفهم باحترام، ويمتلكون دراية واسعة بتشكّلاته وتنوّعاته يرسمون كلّ يوم مشاهد ملونة من فرحهم الإنساني، ويبعثون برسائل إيجابية للآخرين ممّن يعرفونهم في هذا الكون الواسع أو لا يعرفونهم، فالجسور التي تمدّها الحروف لا يمكن أن تعيقها حدود أو موانع طبيعية وغير طبيعية، إذ إنّ قارئ يوسا أينما كان في أعلى قمّة جبل أو سفح أو وادٍ أو ناطحة سحاب أو بيت طين في أقصى جنوب الأرض، أو في جزر الكاريبي، أو جزر المحيط الهندي، سوف يلمس تلك الرسائل الإيجابية، ويشعر بها، ويعيش جماليات السرد، لذلك حين يقرأ “مديح الخالة  أو حفلة التيس أو شيطنات الطفلة الصغيرة  أو البيت الأخضر أو من قتل بالومينو موليرو”، فإنّه حتماً سوف يذهب للبحث عن أعمال أخرى ليكتسب متعة أكبر من هذه النصوص السردية، في قمّة النجاح هذا يقرّر يوسا الصمت، ويحرمنا من التمتّع بجماليات السرد، ويخلي الساحة الإبداعية للكُتّاب “الفشلة” ليلوِّثوا ذائقتنا بالنصوص الهابطة التي لا تغنى ولا تسمن، يا له من زمن صادم أن نعيش في لجّة الكتابات الرثّة، ونحرم ممّا هو إبداعي ومتميز، فمتى يكفّ الكُتّاب “الفشلة” عن الثرثرة الكتابية واتّهام الآخرين بالقصور وعدم الاهتمام بهم، حتى أنّهم يشيطنون الآخرين ليظهروا أنفسهم أبرياء من كلّ صور تلويث الجمال.