عن {البيروتيَّة} جيزيل خوري
يقظان التقي
عنون الراحل سمير قصير إهداء كتابه المرجعي “تاريخ بيروت” في إطار برنامج جورج شحادة وبدعم من وزارة الخارجية والسفارة الفرنسية في لبنان العام 2006 بعبارته “إلى جيزيل، بيروتية من خارج السور”. ربّ صبية بيروتية رحلت باكراً عن عمر 62 عاماً، ما شكّل مسرحاً كاملاً من الحيوية والحضور الأنيق في حمى المدينة. فترك رحيلها انطباعات مؤثرة بين أبناء جيلها ومحبيها، يوم كانت المدينة تفاجئنا بمهرجانات ألوان وفصول وأصل الحياة والرؤيا والحاضرة للأفكار وفي نفوس الحالمين، على غير ما نراه اليوم بعيد اللصوق عن تلك الصور الجميلة، وماهي عليه من غربة وحنين إلى الأدوار، التي لعبتها بيروت منفتحة على العالم، بل أيضاً لطريقتها في العيش، وتلك المسارح واللقاءات والمهرجانات التي صنعت شهرتها وسحرها.
كانت الفتاة الوافدة إلى تلك المدينة لا تهدأ حركتها، في زهوها، لا أحد يستطيع اللحاق بها، ولا ينافسها على سحرها، متعددة وتمنح محاوريها ركناً خاصاً به على واجهة من الحرية و”النعمة”، التي يطلبها في مدينة بعيدة جداً وقريبة جداً. واكب اسم جيزيل خوري سلسلة طويلة من المشاعر تتعلق بالشاب سمير قصير، حاملة شيئاً من مدينة تعرف كيف تحب، وهي عرفت كيف تبقي روحه حيّة منذ اغتياله في الثاني من حزيران (يونيو) 2005.
سمير التعددي، اللبناني– السوري- الفلسطيني، سلسلة طويلة من الشخصيات التي تعشق التعرض للمواجهات والأصوات.
طوال ثمانية عشر عاماً أبقت جيزيل سمير قصير على اسمه وجسمه، في حديقة نهارات بيروت، شاهداً على البحر وأعمدة الصحافة الحرّة، وجرأته في الصمود في المكان وعدم الاستسلام.
كان تفجير سيارة سمير قصير لحظة ركوبه سيارته بعد أقلّ من أربعة أشهر على اغتيال رفيق الحريري 2005، فاتحة لسلسلة من الاغتيالات. بعدها تمّ اغتيال جبران تويني، كانت “النهار” ولا تزال رمزاً من رموز المدينة وقدرتها على التحدي. كان لا بدّ من مقاومة ثقافة الموت. هذا ما فعلته جيزيل، في مهرجان سمير قصير للفنون والإبداعات. كما أنشئت “مؤسسة سمير قصير”، كي تكون شهادته من أجل الحياة ودعوة لتجديد ثقافة الحريات والديمقراطيات.
استطاعت المؤسسة أن تجمعنا معها طويلاً في مسارح بيروت وساحاتها، مع الصِحافيين والمثقفين والفنانين المسرحيين والتشكيليين والموسيقيين في “مهرجان ربيع بيروت”. مهرجان مجاني لكل الناس لدعم الفن والثقافة. مرجعاً بوسائل إعلامية وفنية وعوامل مساعدة في موضوع رفد الحريات العامة، رصد الانتهاكات التي يتعرض لها الإعلاميون، مع تنظيم ورش عمل لصحافيين شباب في التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال الاجتماعي وتدريب مراسلي الحرب لحماية أنفسهم في مناطق الاشتباكات مع أهم المؤسسات الدولية، وفي ذهنها حماية سمير قصير من الانفجارات المقبلة. ثم كانت جائزة سمير قصير للصحافيين والصحافيات الشباب وإنتاجاتهم التي تتحدى الواقع في لغة البحث عن الحقيقة، من دون أن تنسى جذور القضية الفلسطينية ( بيت سمير قصير السريّ وجهة القلب)، إلى مسألة البلد لبنان “بعدنا في ستوري الحرب الأهلية، بلد مجنون يا عزيزي”، إلى موضوع ديمقراطية لبنان المتحدرة من ديمقراطية سوريا، العربي والربيع الغائب في اللوحات القديمة بخلاف حقيقة ما توقعه سمير من مخارج في العملية الديمقراطية الوطنية، أقفل عليها مع جنون أسياد الحروب الأهلية. مساحة متباعدة في جنون الحلم بين سحر مدينة منفتحة شرقية وغربية وعصرية ومتجذرة في تاريخ عروبتها، وبين ساكني الحروب والأقنعة الكثيرة المعقدة الهجينة.
شكل مهرجان “ربيع بيروت” فضاء مدينياً، لروح مدينية حقيقية أكثر من الكراسي التي تجلس الناس عليها. ترى وتتكلم الناس كما تريد، مع إقامة شبكة من العلاقات الواسعة محلياً وعربيّاً ودولياً، خصوصاً مع السفارات الأوروبية العاملة في بيروت .أهمية جيزيل أنها جسدت إيقاعاً مدينياً من الروح الحقيقية عند سمير قصير وإلياس خوري وكل الوافدين إلى المدينة مع انزياحات يسارية الطابع. كانوا مدينيين جميعاً بجنون، بخلاف إعلاميين ومثقفين تبشيريين بقوا على الحياد من مجمل قضايا طرحتها الحرب الأهلية. البعض ترك بيروت إلى العالمية وعاد ونسج رواية عن “ صخرة ضيعاوية”، وبقي مبشراً/ محايداً، أكاديمياً بأكف بيضاء، ولم ينخرط عميقاً في هموم جماعته وأمته. لبنان بالنسبة إليه أشبه بالنبيذ والظلال وفي الكاتدرائيات المكلّلة بالأنوار والجوائز .الثلاثي كان من كاتدرائية أفكار أخر فيها اليساري واليمين والمستقل، تتماثل وحدود كل قضايا الاجتماع المعاصرة في لبنان وتتجاوز الخطوط وأحياناً تتحداها.
قاومت جيزيل ما بعد الموت. قاومت حتّى الرمق الأخير. هزمها السرطان. فاجأنا مرضها، نادراً ما صرّحت به، ولم يهزمها الذين قتلوا سمير قصير. ركزت على برنامجها الحواري الذي انتقلت به بين أكثر من شاشة لبنانية على مدى عقدين من السنين، وانتقلت إلى بي بي سي عربية. ثمّ إلى “سكاي نيوز” العربيّة. تفتقدها بيروت كثيراً، تركت أثراً وأكثر في زواياها ومسارحها، مكنتها الحياة من تطوير عناصرها وأدواتها الإعلامية والثقافيّة والفنّية مع تطور المراحل والتحولات بجهود كبيرة وبتعب مضن كبير.
كانت شجاعة/ مغامرة. كانت صديقة قريبة بالفعل. كانت وفيّة لعملها تقرأ جيداً وتجري فرضها الاستكشافي قبل كل مقابلة. كانت إعلامية مجتهدة بالفعل، وكانت صلبة في فهم ما يحدده موقع بيروت، والدور الإعلامي الذي يمكنها بلورته بطاقات ليست متفجرة بالضرورة. لكنها واكبتها بوضوح كبير وبجرأة تتخطى كل الحواجز. بيروت تعمل المستحيل لتبقى. فترحل الصبية تاركة اسمها في غير مكان فيها وبكم من العبور الأنيق والمتناسق والطبيعة التمثيلية التي تشكلت حول المهنة التي أخذتها بعيداً. وهنا نبذة سريعة عنها:
بعد دراسات في الإعلام والتاريخ، انطلقت مسيرة جيزيل خوري الإعلامية على الشاشة الصغيرة عبر المؤسسة اللبنانية للإرسال (إل بي سي) بعيد افتتاح هذه القناة، وهي أول محطة تلفزيونية خاصة في لبنان، في العام 1986، واستضافت أبرز الشخصيات السياسية والثقافية العربية والعالمية في برنامجها “حوار العمر” بين عامَي 1992 و2001، قبل انضمامها إلى مجموعة “أم بي سي” عام 2002 ومساهمتها في إطلاق قناة “العربية”، حيث قدّمت برنامج “بالعربي” بين عامَي 2003 و2013.
وانتقلت إلى قناة “بي بي سي عربية” عام 2013 حيث حاورت كبار القادة والمفكّرين عن لحظات مفصلية في التاريخ المعاصر ضمن برنامج “المشهد”، ومن ثمّ إلى قناة “سكاي نيوز عربية”، سنة 2020، مع برنامج “مع جيزال”، الذي شكّل نقطة تحوّل في شكل البرامج الحوارية وإيقاعها وتنوّع مواضيعها.
أسست خوري سنة 2006 “مؤسسة سمير قصير”، وهي مؤسسة غير ربحية تسعى بحسب القائمين عليها إلى نشر الثقافة الديمقراطية في لبنان والعالم العربي وتشجيع الحريات. كتبت وأنتجت أفلاماً وثائقية عن أبرز القامات السياسية العربية، وأسست شركة “راوي” للإنتاج الوثائقي إلى جانب الصحافية والسفيرة سحر بعاصيري.”..