دعوات مناهضة المركزية الغربية والعودة إلى القطيعة
• جواد علي كسار
من هشام شرابي وأطروحته الموسومة "المثقفون العرب والغرب" إلى حسن حنفي ونظرية التحديد والاحتواء، مروراً بجميع رموز الطيف الفكري العربي، جددت الساحة العربية مع صدمة غزة، بمختلف تياراتها الفكرية والنهضوية الإحيائية، مواقفها من الغرب، هذه المواقف التي تجلت في الصدمات الكبرى السابقة، كما ظهرت في أطروحات مهمة كالتي قدمها عبد الله العروي ومحمود أمين العالم وفؤاد زكريا وهادي العلوي وبرهان غليون وعبدالوهاب المسيري وأنور عبدالملك وإدوارد سعيد ومحمد جابر الأنصاري، وغيرهم عشرات بل مئات.
ومع صدمة غزة الحالية واصطفاف الغرب السياسي مع الدولة اليهودية بالإجماع، تصاعد الكلام مكثفاً عن إشكالية العلاقة مع الغرب، وهو يستوعب بمدياته ألوان الطيف كافة، بدءاً من استعادة شعار القطيعة ومناهضة المركزية الغربية إلى خطابات التعايش والحوار والاحتواء، وما يحفّ بذلك كله من تفاصيل، يكشف هذا المقال فصولاً منتقاة منها.
حجارة إدوارد سعيد
في الثالث من تموز سنة 2000م قام المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد بصحبة ولده بزيارة الحدود اللبنانية مع "إسرائيل"، وبدافع نفسي شخصي أو موضوعي يعكس "رمزية الفرح" كما يقول، قام برمي حجارة صوب "إسرائيل" اتجهت نحو الفراغ المفتوح بين البلدين، من دون أن تتجه إلى أحد أو تصيب بناءً أو أي جسم آخر، وانتهى الموضوع، أو هكذا ظنّ سعيد خاصة وأنَّ تواجده على الحدود لم يزد على عشر دقائق فقط.
تضمّنت زيارة سعيد إلى لبنان لقاءات متعدّدة مع المعارف والأصدقاء، كما إلقاء محاضرتين، وجولة في الجنوب إلى الشريط الحدودي الذي كان قد انسحبت منه "إسرائيل" تواً، وزيارة إلى سجن "الخيام" الذي أسسته "إسرائيل" عام 1987م واحتضن أكثر من (8) آلاف شخص من الفلسطينيين واللبنانيين. لكن شيئاً من ذلك لم ينعكس عن الزيارة في الصحافة الإسرائيلية والغربية، عدا صورة واحدة انطلقت من "إسرائيل" وعُمّمت سريعاً إلى أرجاء العالم، وهي تُظهر سعيد يقوم برمي الحجارة، لتصفه بأنه متعاطف مع الإرهاب.
لم تنته القصة عند هذه التخوم، بل انطلقت جهود حثيثة لإخراجه من جامعته جامعة كولومبيا التي كان يدرّس بها على مدار (38) سنة، بذريعة التعاطف مع الإرهاب، وكادت أن تصيب لولا الموقف الشجاع لزملائه وبعض المتعاطفين معه. مرّة أخرى ظنّ سعيد أن الحملة ضدّه نتيجة ذلك "الحجر" قد انتهت، بعد أن أُغلق ملف إنهاء خدمته في الجامعة، لولا أن الرسائل التي تعنفه بقيت متواصلة إليه، وبعضها يهدده بالقتل.
من تداعيات "الحجر" يذكر سعيد أنَّ مؤسّسة "متحف وآثار فرويد" في فيينا قد فاتحته في شهر أيار 2000م، لتقديم محاضرة عن فرويد في الندوة السنوية المختصة بفكره. ثمّ عاد رئيس المؤسّسة الاجتماعي النمساوي "شولاين" لتأكيد الدعوة رسمياً في شهر آب من العام نفسه، قبل أن يقوم بإبلاغه إلغاء مشاركته المقرّرة في شباط 2001م، من دون سابق إنذار بسبب تعقيدات الوضع في الشرق الأوسط وصعود موجة معاداة السامية كما ذكر، وعندما كتب سعيد إلى رئيس المؤسّسة رسالة من سطر واحد، مستفسراً عن ماهية الصلة بين الوضع السياسي في الشرق الأوسط، ومحاضرته عن فرويد في فيينا لم يصله جواب قطّ، وعندما ألحّ على مواصلة الموضوع جاءه الجواب من أميركا عندما أعادت صحيفة "نيويورك تايمز" بتأريخ 10 آذار 2001م، نشر صورة كبيرة له وهو يرمي "الحجر" من الحدود اللبنانية باتجاه "إسرائيل".
تختزل هذه الواقعة البسيطة لصاحب كتاب "الثقافة والإمبريالية" وقبله "تغطية الإسلام" وقبلهما "الاستشراق"، المشهد المعقّد في طبيعة العلاقة مع الغرب. فسعيد قذف "الحجر" من لبنان، فجاء ردّ الفعل من النمسا وأميركا، بدلالة إسرائيلية مكشوفة، تفيد: نحن (الغرب) والدولة اليهودية على خطّ واحد.
حجاب فتاة بسكرة
من الحافات الحادّة التي جددت الحديث عن العلاقة مع الغرب؛ حرب الخليج الثانية أوائل عام 1991م، والهزّة العنيفة التي أحدثتها على المستويين الشعبي والنخبوي، عندما تخطت هدفها المعلن في تحرير الكويت، إلى تدمير العراق عبر عمل عسكري منهجي منظم في ضرب بناه التحتية عمرانياً وإنسانياً، مما لا صلة له بالهدف المعلن، ولا ضرورة له لتحرير الكويت.
شعبياً اكتفي بمثال مكثف من أستاذة جامعية في معهد مدينة بسكرة (يطلق عليها بصرة الجزائر لكثافة إنتاجها من التمور) بالجزائر. فمع التدمير الهائل للعراق، خرجت هذه الأستاذة تبكي، وهي تُحدّث عن تجربتها، بأنهّا: "لم تكن تفكر في يوم من الأيام أن تلبس الحجاب الإسلامي. لكن ما إن بدأ القصف على بغداد حتى تملكني شعور غريب، فتوجهت إلى السوق والدموع في عيني، واشتريت زيّ الحجاب وصرت متحجبة منذ هذا اليوم، وقرّرت أن أتخلص في أسلوب حياتي من كلّ شيء يرمز إلى الغرب، وأنا لست تابعة لحزب إسلامي وإنما مناضلة في جبهة التحرير الوطني".
هذا النسق الذي يدلّ عليه سلوك هذه الأستاذة يعبّر عن إسلامية وطنية اجتماعية ثائرة أو مقاومة، شاعت في العقود الأخيرة بانحيازاتها الإنسانية ضدّ الظلم ومن أجل العدالة، أو هي بحسب توصيف الكاتب اللبناني سركيس أبو زيد؛ أصولية إسلامية جديدة تعبّر عن عداء الشعوب العربية للغرب.
صدمة تدمير العراق
أما على الصعيد النخبوي والفكري فقد تحوّل ذلك التدمير الهائل للعراق عبر الغرب السياسي بشقيه الأميركي والأوروبي، إلى صدمة عميقة للنخب الفكرية والثقافية في العالم العربي، دفعت إلى مراجعات جذرية وشاملة لملف العلاقة مع الغرب. ففي ندوة واحدة شهدتها القاهرة في نيسان 1991م، تجمعت شهادات كبيرة ذات دلالة مكثفة تتجه إلى دعوات صريحة للقطيعة مع الغرب، ووضع مسافة مع أنموذجه الحضاري، عبر مهاجمة المركزية الغربية، وتجاوز رمزياته ومناسباته وأشيائه وحتى زيّه، وإعادة التمركز حول الذات العربية الإسلامية ومنظومتها القيمية. نقرأ في أوراق الندوة تساؤل أحد المثقفين العرب: "ما العمل؟ العمل في تصوري هو الانكفاء على الذات - ولا أقول الانغلاق على الذات - الانكفاء على القيم العربية الإسلامية. مثلاً يوم 8 آذار عيد المرأة يجب أن نلغيه؛ يوم أول أيار يوم عيد العمال يجب أن يُلغى أيضاً؛ يجب إلغاء كلّ ما يرمز إلى الارتباط بالغرب".
كتعبير معمق عن جدوى هذه القطيعة في إعادة اللحمة الوطنية وتجسير الصلة بين الشعوب والنخب، قدّم المفكر السوري برهان غليون مراجعة مهمة في بعديها السياسي والثقافي، مما جاء فيها، قوله: "قد تكون القطيعة مع الغرب مسيئة لمصالح بعض الأقطار العربية مادياً واقتصادياً، لكنها إذا أُحسن استغلالها على المستوى السياسي والثقافي، فإنها تتحوّل إلى عامل من عوامل تدعيم الاستقلال الوطني وإعادة ربط النخبة المحلية بالقواعد، وبالتالي تدعيم عملية التحوّل الديموقراطي"، (تنظر التفاصيل وعشرات الشهادات في الكتاب التوثيقي للندوة: أزمة الخليج وتداعياتها على الوطن العربي).
حنفي وتحجيم الغرب
الغرب هو الجبهة الثالثة من جبهات ثلاث تحرك بها مشروع المفكر حسن حنفي، كما عبّر عن ذلك أول ثمانينيات القرن الماضي، بإطلاقه البيان النظري للمشروع، عبر كتابه "التراث والتجديد". من مزايا حنفي وخصائص مشروعه أنه يجمع في أغلب أبعاده ومفرداته بين البعدين النظري والعملي، والنخبوي والشعبي، كلّ ذلك في عمليات تنظير واضحة وميسرة، لكنها عميقة.
على الصعيد النظري لفهم الغرب وتحديد الموقف منه، صدرت له مجموعة أعمال انتهت بالمبادرة الهجومية المميزة "مقدمة في علم الإستغراب". أما على الصعيد العملي، فقد كان مشروعه "اليسار الإسلامي" هو بمنزلة برنامج عمل لمواجهة الغرب، وهو في الأصل بيان، تحوّل إلى مجلة صدرت بالعنوان نفسه أوائل ثمانينيات القرن الماضي، قبل أن يأخذ موقعه في موسوعته الثمانية "الدين والثورة".
بتلخيص مكثف يسجل حنفي أن "اليسار الإسلامي" هو حلقة مستأنفة في مواجهة التجليات المستحدثة للمركزية الغربية، والتنبيه إلى ما يصفه بمخاطر الاستعمار الحضاري، أي تفريغ الحضارة من داخلها، ومن ثَمّ فهو يدافع عن جماهير الأمة الإسلامية من داخلها ومن تراثها، ويقف في وجه التغريب الذي يهدف أساساً إلى القضاء على الثقافات الوطنية وزرع أخرى بديلاً عنها، حتى تتُم الهيمنة الحضارية للغرب.
ومهمة المشروع في هذه الجبهة، هي كما يسجّل نصاً: "تحجيم الغرب، أي ردّه إلى حدوده الطبيعية والقضاء على أسطورة عالميته"، (اليسار الإسلامي، ص21).
علوي والردع القاسي
لا يمكن لأي متابعة كالتي نحن فيها عن المسلمين والغرب، إلا أن تمكث طويلاً مع المفكر هادي العلوي، تتأمل أفكاره ومطارحاته في الموضوع. أجل، ينتمي العلوي إلى اليسار المعرفي في بضعة ممتازة من أقطابه، أمثال حسين مروة وطيب تيزيني ومحمود أمين العالم، لكنه يتميّز عليهم جميعاً بحدية مبدئية، عاش عليها وانغمس فيها فتطبّعت عليها مراحل حياته كلها حتى وفاته "رحمه الله"، إذ عاش عفاً شريفاً وغادرنا زاهداً نزيهاً، متمثلاً أعلى درجات الإستقامة بين الفكر والسلوك، والنظر والعمل.
يُسجل العلوي في مفتتح رؤيته عن العالم وكإطار لها: "العالم عالمان: عالم الإمبريالية الذي يضمّ أوروبا وأميركا الشمالية واستراليا و(إسرائيل)؛ وعالم الجياع المحرومين في بقية القارات.. العالم الأول يستعمر الثاني ويغتصبه وينتهك مقدساته، ويسخّر جميع قواه المركزية والطرفية لمنعه من التحرّر والتقدم والنهوض".
باختصار شديد يذهب هادي العلوي إلى أنَّ الغرب ليس لديه أبعد من العلم البحت، إلا النزر القليل، والأكاديمية الغربية ساذجة وسطحية لا تفهم حركة التأريخ، وتجهل المبادئ التي تحكم المجتمعات رغم إسرافها في الدراسات النفسية والاجتماعية. ومن ثم فالغرب كله بجميع معاهده ومؤسساته وصحافته ومفكريه وفلاسفته، مجمعٌ على تنميط صورة العربي إرهابياً متخلفاً؛ والغرب عنده مُنطلِق من إلغائية إبادية لا رحمة فيها؛ يطلق عليها العلوي "إلغائية القتل" التي تصل إلى حدّ الموافقة على قصف الأطفال وأمهاتهم، كما يسجّل نصاً.
النخب المثقفة
البرهان هو علامة التحضّر والحجة والدليل وسيلته، لكن أميركا و"اسرائيل" لا تملكان البرهان كما يقول، لذا هما يعالجان مشكلات الخلاف مع الغير بالسلاح والتهديد، يصطف معهما في الإلغائية القاتلة والتهديد بالقوة بدلاً من البرهان والحجة، شريحة واسعة من مثقفي العالم العربي والإسلامي، بل مجمل الرقعة الموسومة بالعالم الثالث.
يكتب نصاً: "إن أغلب مثقفينا المعاصرين وبينهم مثقفو الحداثة ـ وأعني بهم مثقفو الهزيمة والنظام الدولي الجديد ـ صناعِنة، وغير محترمين من قبل الشعب". والجاد المثابر المخلص منهم يقدم: "الصراع الايديولوجي الفكري على الصراع الوطني الاجتماعي" ما يأخذه إلى الاصطفاف مع الغرب وحتى "إسرائيل"، بناظم الإنتماء الايديولوجي الذي يجمعه إلى الغرب ويوحده معه في الهوية، على حساب شعبه ووطنه. (العلوي، مجلة فتح، العدد 367، 1 حزيران 1996م).
ردع الغرب
كيف يتمّ ردع الغرب؟ بعد أن يستبعد علوي لغة اللين والحوار والهرولة والتطبيع، يفتح الباب واسعاً أمام نظرية الردع القاسي. تنطلق نظرية الردع القاسي بالتواصل مع الرأي العام الغربي، لأنه وحده القادر على تأديب حكامه وتغيير قناعاتهم ومن بعدها قراراتهم؛ بنص تعبيره: "الرأي العام الغربي يصوّت للحاكم الذي يرتكب عدواناً ناجحاً علينا، ويخذله إذا أخفق في عدوانه. وما نحتاج إليه هو إدخال الرعب في قلب هذا الرأي العام ومكاشفته بالعداوة، وصبّ حمم الحقد المقدس عليه حتى يرتدع عن نزعته العدوانية، ويدفعه الخوف منّا إلى تغيير مواقفه من حكامه، فيخذل الحاكم الذي يرتكب عدواناً علينا، ويصوّت للحاكم المؤدب الذي يرتدع عن العدوان".
ثم يضيف، "أن الوسيلة الوحيدة لإقناع الرأي العام الغربي بعدالة قضيتنا، هي إرهابه.. حتى يجبر حكامه في الانتخابات على الكف عن قتل أطفالنا وأمهاتهم"، (حوار مطوّل مع العلوي، مجلة الفتح، العدد 391، 31 أيار 1997م).
ثلاث ملاحظات
لا نجافي الحقيقة بشيء؛ إذا سجلنا بأن ما مرّ معنا لم يكن أكثر من مؤشرات عجلى لقصة طويلة في العلاقة بين المسلمين والغرب، امتد ملفها زمنياً إلى نحو قرنين، وشمل مكانياً العالم العربي والإسلامي برمته، بالإضافة إلى بقية مناطق تواجد المسلمين، وهي لم تزل مفتوحة في المكان والزمان، كما في الأطاريح والأفكار والرؤى، وعلى مستوى المواقف والميدان.
لتكثيف الرؤية واستخلاص النتيجة، نختم بالملاحظات التالية:
أولاً: مع الأزمات الحادّة أو الصدمات يتصاعد الحديث عن إشكالية العلاقة بالغرب، كما شهدنا ذلك فعلاً في وقائع متميزة ربما كان في طليعتها على مستوى المنطقة؛ عام 1948م وتأسيس الدولة اليهودية، وهزيمة 1967م، واحتلال "إسرائيل" للبنان عام 1982م، وحرب الخليج الثانية عام 1991م، بالإضافة إلى ما يحصل الآن في غزة.
الانفعال مطلوب حتى على المستوى الفكري والثقافي، بيدَ أنه بحاجة إلى شروط موضوعية، منها الوعي النظري ببواعث الانفعال وحقيقته حتى يتحول إلى موقف ثابت ومستمر يمكن البناء عليه، وإلا سينطفئ ويتلاشى أو ينقلب إلى ضدّه بتغير الوقائع وتبدّل البواعث.
ثانياً: لا نقصد اختزال الغرب بكل ما هو استعماري وعدواني، وهذا ليس صحيحاً أيضاً من الوجهة الواقعية. وبالعودة إلى الجهاز المفاهيمي، فقد اقترحت مرّات، تقسيم الغرب إلى الغرب السياسي؛ والغرب الثقافي؛ والغرب التكنولوجي؛ والغرب الإنساني. ومشكلتنا دون ريب هي مع الغرب السياسي، على الأقل من وجهة النظر التي نتبناها.
ثالثاً: مع أن الغرب السياسي هو عدو بشكل عام لا ينبغي أن تساورنا الغفلة عن عداوته، لكن العداوة لا تعني أبداً الحرب المفتوحة والدائمة، ولا مواجهته بالثورية وحدها، أو بالدبلوماسية والسياسة، بل بإدارة متكاملة تصدر عن رؤية واقعية عقلانية نفعية؛ أي ذات جدوى، وإلا فالمواجهة أو العداء ليست مطلوبة لنفسها.