دكاكين الخطاطين.. معاهد لتدريس الخط العربي

ثقافة 2023/11/05
...

 مرتضى الجصاني

من المتعارف أن بغداد العباسيّة كانت مزدهرة في حركة الثقافة والكتابة والتأليف، فضلا عن حركة الخط العربي وتجويده وتذهيبه حتى صار للخطاطين مكانة كبيرة ومهنة رائجة، ومن هنا نشأ سوق الورّاقين في بغداد.ولا شك في أن سيد أهل الخط ابن مقلة الوزير والخطاط كان مؤثراً في تحريك وتنشيط حركة الخط العربي، ومن ثمّ حركة المكتبات والكتب التي جعلت من بغداد منارة للحضارة ورافداً إنسانياً كبيراً للمعرفة.

ولأنَّ كثرة المكتبات وازدهارها تتطلب نسّاخين لنسخ الكتب -والنسّاخ تسمية جاءت من خط النسخ الذي تكتب به أغلب الكتب وذلك لوضوحه وسهولة قراءته- وكذلك تسميات أخرى منها الورّاقون.
وتشير بعض الأخبار إلى أن عبد الرحمن أفندي باع مكتبة في مزاد عام 1890 في سوق السراي الذي يعد الوريث الشرعي لسوق الورّاقين العباسي.. هذا الخبر حسب ما نشر في جريدة الزوراء البغداديّة يعني أن هذا المكان استعاد مطلع القرن العشرين أهميته الثقافية ووظيفته في تنشيط دور الكتب والمكتبات، وبالتأكيد يضاف لذلك مكاتب أو دكاكين الخطاطين التي كانت رائجة إلى وقت قريب.  من المهم أن نذكر أن شارع الرشيد هو موطن الخطاطين، فضلا عن سوق السراي وشارع المتنبي لأنّ ما يهمنا هنا هو طبيعة هذه الدكاكين. إذ عادة ما تأخذ دكاكين أو مكاتب الخطاطين شكلا زاهدا يطغى عليه لمسات من الصوفية في طبيعة أثاثه ومحتوياته، وغالباً ما يحوي المكتب على طاولة ومحبرة وورق وقصب، بينما هناك الكثير من اللوحات الخطيّة التي تحمل عبقا تاريخيا ومناخا روحانيا مطمئنا وهي تزين الجدران، فالقصب و «سلايات» الحبر تشعرك بأنّك تعيش في عصر ازدهار بغداد العباسي.
هذه المكاتب لم تكن محال تجارية لكتابة وتنفيذ الإعلانات التجارية أو الملصقات ديمومة العمل الفني فحسب، بل كانت وما زالت أشبه بالمعاهد الفنية لتدريس الخط العربي التي بدأ ضيق مساحتها وامتلاؤها بالأعمال الفنية كمرادف حقيقي «للگاليريهات» الفنية المختصة بالرسم.
وقد انتشرت هذه المكاتب في جميع المحافظات العراقيّة بنفس النكهة والعمل، لهذا فإنه من الطبيعي جداً عند العودة لمكاتب الخطاطين في شارع الرشيد أن نذكر مكتب الخطاط هاشم البغدادي عميد الخط العربي وسراج بغداد الوهاج، فهذا المكتب الذي كان في منطقة باب الأغا بشارع الرشيد معهدا لتعليم الخط وفنونه وتخرج منه مئات الخطاطين من جميع المحافظات العراقية.
كذلك مكتب الراحل الخطاط مهدي الجبوري الذي أسماه دار الخط العربي أيضا، لقد كان مدرسة كبيرة امتدت من الخمسينيات إلى مطلع القرن الواحد والعشرين، وانتج خلالها مئات من العناوين واللافتات وتخرج منه مئات الخطاطين.
وفي هذا المجال يذكر الخطاط حميد السعدي الذي كان يمتلك أيضا مكتبا للخط في شارع المتنبي عدداً من مكاتب الخطاطين الجميلة، منها مكتب الخطاط غالب صبري الهلالي، ومكتب الخطاط إحسان أدهم، ومكتب الخطاط الدكتور سلمان العيسى، وغيرهم من الذين اشتغلوا لفترات طويلة وأنتجوا مئات من الأعمال الفنيّة.  ومن الجميل ذكره أن تعليم الخط في العراق يتم من دون مقابل مادي -وهذا عرفا من تقاليد الخط العربي- وكأنه وسيلة للتقرب إلى الله، وأن هذه المكاتب هي الطريق لتعلم الخط العربي وفقا لأصوله ومناهجه الحقيقة المعتاد عليها.
 وقد شاهدت هذا جلياً في عدد من مكاتب الخطاطين، حيث كان لديَّ الشغف الكبير للنظر إلى جدران ولافتات هذه المكاتب. لقد كنت أقف متسمّراً أمام عنوان أو لوحة مشغولة بعناية فائقة وبإطار أنيق تضمّ خطوط الثلث الجلي والديواني والنستعليق في مكتب الخطاط جواد الغرباوي الذي يعد من أقدم خطاطي محافظة واسط، أو أمام عمل بخط الثلث الجلي المتراكب في مكتب الخطاط علاء كامل أحد أهم الخطاطين بالنسبة لي.. هذه الدكاكين الصغيرة هي خلاصة تاريخية لجماليات الخط العربي، فلا يمكن تجاهل ما أنتجه مكتب الخطاط عباس البغدادي من تلاميذ وجماليات ولوحات فنية أو مكتب الخطاط جاسم النجفي الذي كان مدرسة حقيقية لتخريج عشرات من أفضل الخطاطين، لذلك فإن مكتب الخطاط ليس مكانا للعمل التجاري فقط، بل هو معرض دائم للأعمال ومشغل
مستمر للتدريس.