زهير الجبوري
لعلَّ الدخول إلى تجربة التشكيلي العراقي الدكتور مكي عمران تنطوي على قراءة محايثة للثيمة المضمونيَّة التي يطرحها والتي نستشف من خلالها مدى قراءته لعالم
الفن التشكيلي، فإنَّ ما يطرحه من أعمال تشكيليَّة تأخذ بنظر الاعتبار الجانب الفكري، بمعنى أنّه يعطي قيمة كبيرة للمضمون، والتفكير في الموضوعة التي يشتغل عليها، وهذا ما يُبرهن قدرته الإبداعيَّة والأكاديميَّة (بوصفه أستاذاً لمادة التشكيل)، في تقديم تجربة ذات موضوع فكري، بخاصة تجربته (عوالم متداخلة) حيث كانت له قراءة تاريخيَّة ومثيولوجيَّة للحضارات، استطاع من خلالها تقديم الأنموذج التشكيلي داخل إطار اللوحة، وهي إحالة مهمة وحسّاسة حين يتحول الجانب التنظيري الى (فني/ ثيمي)، لأنّه يمتلك ثقافة واسعة في هذه العوالم، ما يجعله أكثر مهارة في تكريس وتنفيذ هذه القراءات إلى لوحات، بل إلى تجربة خالصة نَظَّرَ لها وكتب فيها دراسة وافية (بحث)، حيث كانت له محاضرة في (ملتقى 10 كراسي) في مدينة الحلة قبل مدة قريبة تحدث عنها بشيء من التفصيل، ثم قدم النماذج التي اشتغل
عليها.
مكي عمران، واحدٌ من فناني العراق الذين لهم خطوات محسوبة في تقديم تجاربهم، فعلى الرغم من تواصله وعشقه الكبير لعالم اللوحة، الاّ أنه لا يقوم بعجالة في تقديم تجربة معينة إلا من خلال وجود شيء مختلف وجديد من وجهة نظره، وأحياناً يكون الاختلاف في الجانب الموضوعي عبر استخدام ثيمات لها جذرها الفكري (كما ذكرت)، وهذا دليل واضح لما شاهدنا وتحدثنا عنه، ولأنّه يستعد لإقامة معرض شخصي في العاصمة بغداد فإنّنا سنلمس ما أشرنا إليه عبر التجربة التشكيلية الجديدة.
النزعة التجريديَّة التي رسم فيها الفنان انطوت على رمزيَّة الأشكال عبر تقنية اللّون وطريقة توظيفه، أحيانا نمسك بلوحاته ثمّة ملحمة، أو قضية ذات بُعد إشكالي للوجود الإنساني من خلال تقارب الإحساس الذاتي للقضية البشريَّة، فعمران يريد أن يقنع المتلقي أنَّ القضية الإنسانية واحدة، وأنَّ جلّ ما يقدمه الإنسان من إبداع ينطلق من ذهنيَّة واحدة مع اختلاف الرؤى، وحين سألت الفنان عن ميوله للألوان الحارة والضوئيَّة في تجربته المعهودة (عوالم متداخلة)، كانت إجابته (اشتغالي على هذه الألوان ينطلق من أصل انتماء الإنسان الى أديم الأرض، وطبيعة هذه الأرض تأخذ هذا اللون منذ كان الإنسان الرافديني وغيره يشتغل على ذلك، لتصبح الألوان بهذا الشكل)، وفي لوحات أخرى نمسك باشتغاله اللّوني عبر توظيف متضاد (كونتراست) ما جعل الانتباهة لهذه اللوحات ذات سمة مختلفة، لكنها متناسقة، وهنا تكمن مهارة الفنان حين يقدم أعمالا بهذا الأداء، بخاصة لوحاته التي تحمل موضوعة الأطفال وما تمتلكه من حركات وعفويَّة وتلقائيَّة فطريَّة، وهي قراءة للذات للوعي البكر وللعفويَّة وللحركات التي تنتج جمالاً له خصوصيته.
التشكيلي مكي عمران يحمل ثقافة واسعة في مجال الفن وغيره، ما جعله يقف بجانب أعماله بطريقة تجاوزت المهارة والأداء والتكنيك، وسأختصر ذلك في تجربته المهمة في مجال (التخطيطات)، إذ له تنبوآت في واقعنا السياسي والاجتماعي، فحين يقرأ ما سيحدث، سرعان ما يقوم بتخطيطها على الورق، وسبق له أن أراني العديد من الرسومات التخطيطيّة التي تحمل الموضوع ذاته وكانت بتعبيريّة عالية ومهارة كبيرة، ولعل اشتغاله في هذه المنطقة مهم جداً لأنّه لا يخضع للأبعاد الفنيّة الأكاديميّة فحسب، إنّما لقراءة البُعد السوسيو سياسي، والسوسيو ثقافي، لهذا كان الأثر الواضح في تقديم هذا الشكل من الأداء الفني، كما نلمس له تجربة خالصة في (الوجوه) وهو عالم يأخذ على عاتقه الرمز السلطوي للوجوه المستعارة، حيث تتضح بعض لوحاته على تقنية التقارب بين الشكل (الوجه) وشكل آخر (وجه) في لوحة واحدة، كأن العالم كله شفرات معبرة عن وجوه عبر أزمان مختلفة.
ككل، ما تزال تجربة مكي عمران حاضرة في المشهد العراقي والعربي من خلال تواصله ومشاركاته داخل وخارج البلد، وسبق أن أقام العديد من المعارض الشخصية العقد التسعيني وحتى السنوات الأخيرة، وتجربته المقبلة ستكون لها بصمة خاصة في الأيام القريبة وسنشاهد هذه التجربة وما تحمله من أبعاد جماليَّة لها تفرّدها.