خضير الزيدي
يبدو اليوم أن موضع اهتمام الفنان الفلسطيني رائد القطناني هي الحرب الدائرة في غزة وأهمية ما يرسمه لا يستقر ضمن مساحة ثابتة، إذ يقع على عاتق الفن الاشارة لمأساة تلك الحرب. أيضا هناك ما هو أبعد أمام أعيننا وهو التوثيق والاهتمام بالهوية الفلسطينية ليعزز عبر خطابه الفني المليء بالحماسة من لحظة الحنين إلى الأرض الأم، ويجابه هول الدمار من جهة ثانية.
وأحسب أن رسوماته الأخيرة التي تتزامن مع حرب غزة جاءت بعيدة عن الانفعال الوجداني المتسرع، بل هي نتاج مخيلة تعي درجة تنامي الاحساس بالمسؤولية التي يبديها الفنان الحقيقي اتجاه خطابه الوطني.
وبما أن الترابط بين الفن والواقع هو فهم لاستمرار وديمومة يقصدها هذا الفنان، فقد رأينا عبر متوالياته اليومية في الرسم والتخطيط والكرافيك، كيف تضيء لوحاته ساحة الحرب وتقدم إبداعا ينتمي للتحول في منظومة رسم حقيقي (واقعي/ أو تعبيري)، فهو منشغل بطاقة مدونات بصرية تلامس من دون أدنى شك إحساسنا بما يكفي أن نقول إن مسؤولية وحاجة الرسم عنده (في عقله ووجدانه) بدت أكثر فاعلية لتسد ثغرات تاريخ الواقع المؤلم، وكل ذلك جاء عبر أعمال فنية استمدها وبسمات تعبيرية صريحة من واقع ما تعيشه فلسطين اليوم.
فكيف نقيّم فنه وممارساته في موازاة ما يحمله المقاتل الفلسطيني من عدة حرب؟ يبدو أن نظام الفن لديه مغامرة واقعية يتعذر علينا أن نسميها إنشائية، لما تقدمه من تصور، فطريقة رسمه في الحقيقة ذات موقف يبديه أمام المغامرة التي تنتهي بمعرفة حقائق ما نعيشه من خيبات وسكوت جراء دمار فلسطين، وتكويناته تعلن عن مواجهتها ورفضها وتمردها وتمكّننا من معرفة موقفه ومضاعفة وجدانه اتجاه الحياة والوجود.
لقد رسم الأطفال والشيوخ وصوّر الدم بلغة فنية تحمل حيوية التحديث والجمال في الرسم وانساق ليعيد عبر تعبيرياته ما يلهب حماس المتلقي اتجاه قضية فلسطين، وهذا النوع من الفن لابد أن ينجح في بث رسالته، ليس لأنه اقرب للوجدان والعين البصرية، بل كونه يحول الفن إلى سلاح مجابة، وعلى المتلقي أن يوفر مزيدا من الشعور حيال ما تبديه انساق اللوحة من تعبيرية صارخة.
ووفقا لهذا الترابط سيكون الأمر مشتركا بين الفنان/ اللوحة/ المتلقي، وكل ذلك مقابل المجابهة الحقيقية للفن مع الدمار وفكرة الحرب، ورب قائل يتساءل: أين نجد ما ينطبق عليه هذا الكلام من أعمال فنية؟
في واحدة من أعماله التعبيرية يرسم لنا بشكل متقن يدين لامرأة تحوك بمغزلها الواضح والملفت.. إن الاشارة ليد المرأة هي ادامة للمهارة والحياة والعيش والتواصل، وبدت ملامح الخطوط والانشاء التصويري مكرسة بقدرة عالية من الرسم، ولكننا سننجح في القول إن إشارة (فعل الخياطة) ستأخذنا لمضامين النعش/ أو اللباس التقليدي الفلسطيني/ أو صنع راية سلام، أو رايات حرب، كلها في نهاية المطاف ستحمل في نطاق التأويل صورة المرأة الأم التي تنتمي لجذر واقعها الفلسطيني، بينما على العكس من هذا التصور نرى واحدة من أعماله الأخيرة لأب يحمل في يديه كيسين يتقاطر منها الدم، وهو تحول يتخذ من الفجيعة تصوراً يمكن العثور على مرارة ما يضاعفه التأويل هنا لأكثر من قراءة معرفية أو تعبيرية، وستتحول يوميات الأب المغرم بالعيش بالكرامة إلى حمل اشلاء أبنائه. وعلينا القول إن هذه الرؤية في الفن شديدة الصرامة، حينما يتحول مغزى الفن إلى قضية جوهرية تتماهى مع كل العقول والتصورات المختلفة، فهي أرضية صريحة تحمل انطباعا يوثقه الفن والتاريخ والصورة الفوتوغرافية، وليست لعبة خيال يعلنها الاسراف في الرسم.
رائد القطناني دمج الفن مع الجسد، وكان هوسه صارخا حينما يعلو من رمزية الجسد ليطبّق عبر كل امكانياته الفنية (الواقعية والتعبيرية) بحذر وتأن، وسينجح في تبرير كلامه أننا بحاجة لفن يجابه الدمار والزمان معا، فهو لا يخفف من مشهد مأساوي في الرسم عبر الرمز الذي يصوغ بناءه تعبيرياً.. نعم، هناك معايير تلزمه الابتعاد عن التقريرية والانشاء المباشر ليتجنب السقوط في اعادة ما تنسخه الأفكار المليئة بالوهم، فشخوص هذا الفنان أعادهم باستعارة جمالية وانتقاء ابداعي من دون أن يشتت من وحدة الموضوع في رسوماته التي تخص الحرب. لنقل أنه يعيد هندسة اللوحة وتعبيريتها من دون أي اداء مقيد مع حيوية احتراف عالية، ولكن من دون المساس في أخلاقيات قضية الفن وجوهرها المشرف، وهذا ما حدا به إلى أن يشيد لنا كتلا كبيرة وعالية من اللوحات التي ترتكز في مدلولها على ما ترتب من دمار ورواسب موت وفواجع إنسانية تعيشها غزة وباقي مدن فلسطين.