الغريزة والمعرفة

ثقافة 2023/11/08
...

كاظم لفتة جبر 


يعبر مفهوم الغريزة عن الميل الفطري للإنسان لإشباع حاجاته ورغباته، بعكس المعرفة التي تعبر عن الإدراك والوعي وفهم الحقائق عن طريق العقل ، فما بين العقلي والغريزي يكمن مفهوم التجرد ويخوض معاركه مع الذات ، سواء كان من خلال التخلي عن  الماديات أو التجلي في الماهيات.

ففي البدء كانت الفطرة ، إذ بحث الإنسان القديم عن إشباع حاجاته، والعمل على  تكيف أوضاعه، ثم بعد ذلك تحرك العقل لغرض الإدراك وإخضاع الأشياء لرغباته وحاجاته. ثم بدأت الحضارة بالولوج، فالإنسان مجموعة غرائز إن لم تجد تنظيماً شابها العبث ودنى من عالم الحيوان. لذلك كانت مهمة الفكر تحصين الغرائز والعمل على تطويرها.


فالإنسان كائن غرائزي يبحث عن السعادة سواء كانت في جانب الخير أو الشر مهما تعددت أنواعها وتمظهراتها، لذلك كان الفكر ثمار الغريزة وتطلعاتها، لذلك تجد الغريزة عند الحيوان  فطرية بالكامل ، بعكس الغريزة عند الإنسان فتظهر على شكل دوافع كامنة تتحكم فيها التربية والبيئة والمعرفة، لذلك ذهب أغلب علماء النفس إلى تسميتها بالدوافع عند الحديث عن الإنسان.

كما أن غريزة الجنس لا تختلف عند الإنسان  عن الحيوان في أنها حاجة بيولوجية، لكنها تختلف بأنها حاجة نفسية واجتماعية، وقد ترتبط بمعان سامية سواء كانت أخلاقية أو دينية، وعلى هذا الأساس استطاع الإنسان من خلال ربط الغريزة بالمعرفة أن ينتج الفن ويكتب الشعر ويمارس الحب ويكوِّن أسرة ويكوِّن علاقاته مع المجتمع، لذلك مرَّت عملية تطور دوافع الإنسان  مُنذ القدم بمخاض الزمن وتغيره، لذلك تجد في كل عصر دوافع  مختلفة للإنسان.

ولذلك ميَّز فوكو بين الجنس والجنسانية، باعتبار الجنس عملية عضوية مباشرة، والثانية تشتمل على مجمل الحياة الجنسية بمعناها الواسع. والتي من خلالها تستطيع النفس الانفلات من التأثيرات الخارجية المحددة لسلوكيتها, والانزياح خارج وطأة المعرفة الرّتبية.

فقديماً ربط الإنسان الغريزة بالأسطورة، وجعل لكل غريزة آلهة، مثل أفروديت  آلهة الحب عند اليونان تجدها  تظهر عارية وجسدها ملفوفاً بوشاح شفاف وتحمل بيدها حمامة مقدسة ، وتعددت وظائفها  لكن في الأساس هي ربة الجنس والجمال  والخصوبة،  فبدأ الإنسان بعبادتها وتقديم الطقوس لها. إلا أن ذلك لم يشبع عطش الإنسان ورغباته من خلال الأسطورة والبطولة.

لذلك يوصف أفلاطون في المأدبة الرغبة التي أصلها الغريزة،  بأنها كل ما ينقصنا،  لذلك سعت الإنسانية إلى إيجاد نظام أو سلطة سميت باسم الدولة مهمتها  التحكم وتنظيم تلك الدوافع الغريزية لدى الأفراد من خلال القوانين والمبادئ الأساسية للحياة لغرض المحافظة على المجتمع.

ثم جاءت الديانات ودعت لتهذيب تلك الدوافع عند الإنسان، لكن الكثير ممن تبنَّى تلك المبادئ وجدها  دعوة تقيِّد الفرد في الحياة المادية والاهتمام بالآخرة، لذلك سميت تلك العصور وخاصة في الجانب المسيحي بالعصور المظلم، وذلك لاقتصار الغريزة على الجانب البيولوجي للجنس. 

وبعد دعوات التنوير للاهتمام  بالعقل من قبل مفكري و فلاسفة التنوير ، وجعله هو السبيل لفهم العالم ودوافع الإنسان وليس الدين، انبثقت النهضة في جميع المجالات  وبدأ إبداع الإنسان، في الفن والشعر والجمال والصناعة والعلوم.

ورغم  كل ذلك الإبداع ظهرت تيارات سياسية واجتماعية تدعو لتحقيق دوافع الأفراد من خلال أيديولوجيتها ومنهجها. فكل حزب بما لديهم فرحون ويصرحون بأنهم يمتلكون الحقيقة التي تحقق كل دوافع وسعي الإنسان في السعادة، فظهرت اتجاهات مثل الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية وبهذا تم استغلال دوافع الإنسان لأغراض سياسية وعندئذ حدثت الحروب والكوارث في العالم.

لذلك أرجع فرويد دوافع الإنسان إلى نوعين من الغرائز: أولاً غريزة الحياة هي غريزة الحب والسلام  والجنس التي تحافظ على الذات والنوع، أما الثانية فهي غريزة الموت وتسم بالهدم والعدوان والتدمير.

وعلى هذا الأساس  يدعم فوكو النظرة القائلة في المجتمعات الحديثة لا يتم قمع  الجنسية وتحريفها، بل إنتاجها وإثارتها من قبل السلطة. لذلك أشار فوكو لجوهر مشكلة الإنسان تكمن في تحرير الفرد من حقيقة رغبته وغرائزه، كون أصبحت رغباته سجناً له.

وللخلاص من ذلك دعا فوكو إلى أن تحقق الممارسة بشكل متزامن الكشف والتأويل لكل تقنيات الخطاب الاجتماعي والنفسي والفلسفي بهدف تحقيقها أولاً، وبعد ذلك التبرؤ والفرار من وطأتها ثانياً. وبعد ذلك العودة للتآلف معها مجدداً. وهذا ما يسميه دولوز جدل الداخل والخارج عند فوكو. وأعلى أشكال ممارسة  آثار الذات عند فوكو هو التفكير وكتابة خطابها اللامتناهي، في محاولة للكشف عنها وهي متلبِّسة بين الفكر والسلوك. وهذا لا يعني الوصول إلى مثالية التطابق بين الخارج والداخل، بل الفوز بالذات عبر فعلها وانفعالها في العالم. وعلى ذلك يجب الاهتمام بدوافع الإنسان الغريزية كونها أحد المعارف الأساسية للتقدم.