كيم مونسو
ترجمة: جودت جالي
العالِم الذي التزم بصبر وبأسلوب منضبط خمسين عاما من عمره البالغ ثمانية وستين، كرسها لكتابة “عمله العظيم”، ولديه منه الآن اثنان وسبعون مجلدا منجزا، يلاحظ ذات صباح أن حبر الصفحات الأولى من المجلد الأول أخذ يبهت. لم يعد السواد قاتما واستحال إلى رمادي، وكما اعتاد أن يعيد النظر في جميع المجلدات التي كتبها حتى اليوم، يلاحظ هذه المرة أن التلف قد أصاب الصفحتين الأوليين فقط، الأوليين اللتين كتبهما قبل خمسين عاما، إضافة إليهما الأسطر في الهامش الأسفل للصفحة الثانية تلفت بحيث لم تعد مقروءة.
يعيد باجتهاد كتابة الحروف الممحوة واحدا واحدا. يتتبع بمثابرة الآثار إلى أن يستعيد بحبر هندي الكلمات والأسطر والفقرات الممحوة، ولكن وهو يكاد ينتهي، يلاحظ أن الحروف في الأسطر الأخيرة في الصفحة الثانية وكل الصفحة الثالثة (عندما بدأ عملية الترميم كان بعضها بحالة جيدة والبعض الآخر بحالة جيدة نسبيا) بهتت حروفها ما يؤكد أن المرض مسبب للتفسخ.
قبل خمسين عاما، عندما قرر العالم أن يكرس حياته لكتابة العمل العظيم، كان يدرك تماما أن عليه أن يستغني عن أي نشاط قد يبدد ولو جزءا دقيقا من الزمن، وبقي أعزب وعاش بلا تلفزيون. سيكون العمل العظيم عظيما حقا بحيث لا يستطيع تضييع لحظة في أي شيء آخر. في الحقيقة أنه لا يوجد شيء آخر غير العمل العظيم، وذلك هو السبب في أنه قرر أن لا يضيع الدقائق الثمينة في البحث عن ناشر. سيجد في المستقبل واحدا. كان مقتنعا جدا بقيمة ما هو مقبل على إنجازه، وأنه بالضرورة، عندما يكتشف شخص ما مجلدات العمل العظيم، غير مطبوعة، جنبا إلى جنب، في خزانة الكتب في الممر داخل بيته، أول ناشر يكتشفها (أيا كان) سيلاحظ رأسا أهمية الذي أمامه، ولكن والحروف تبهت الآن ما الذي سيبقى من العمل العظيم؟.
كان التفسخ بلا هوادة، إذ بمجرد إعادته لكتابة الصفحات الثلاث الأولى يجد أن الحروف في الصفحات الرابعة والخامسة والسادسة تبهت أيضا، وما إن انتهى من إصلاحها اكتشف أن حروف السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة قد انمحت كليا. عندما جددها وجد الحروف التي على الصفحات من الحادية عشرة إلى السابعة والعشرين اختفت.
إنه لا يستطيع تضييع الوقت محاولا الاستدلال على سبب انمحاء الحروف، فانكب على تجديد المجلد الأول (بل المجلدات الأولى لأنه سرعان ما يرى أن الثاني والثالث يتفسخان أيضا)، ويدرك أن الوقت الذي قضاه لإنجاز هذا العمل الرائد كان سيسمح له بإكمال المجلدات الختامية. إن جرد المتن الذي سيتضمن في آخر عمله اسم الناشر وتاريخ النشر ومكانه، سيمنح للمجلدات التي كتبها معناها الحقيقي، ومن دونه فإن تكريسه لخمسين عاما سيذهب هباء. إن المجلدات الابتدائية هي الضرورية ببساطة، حتى لو كانت ليست جوهرية، لكنها الأساس لوضع الأشياء في الحيز الذي يبسط فيه على نحو منظم اكتشافاته التجديدية بطريقة عبقرية والتي ستضمها المجلدات الختامية التي من دونها لن يكون العمل العبقري ذلك العمل. بدأت وساوسه عندئذ: ألا يترك المجلدات الأولية تمضي في تفسخها ولا يضيع الوقت في ترميمها؟ ألن يكون من الأفضل أن يركز على معركته ضد الزمن لينهي مرة وإلى الأبد المجلدات النهائية، كم هي بالضبط ستة أم سبعة؟، لكي يستطيع إيصال العمل إلى ذروته حتى لو جازف بأن تتلاشى المجلدات الأولى إلى الأبد.
يمكنه بالتأكيد أن يرتضي فقدان المجلدات السبعة أو الثمانية الأولى من المجلدات الاثنين والسبعين التي كتبها حتى الآن، فهي حتى وإن أمكنته من أن يستجمع قدراته، ولكنها لا تعطي جوهريا شيئا جديدا. وهنا يضربه وسواس آخر: عندما يصل إلى الختام هل ستكون المجلدات السبعة أو الثمانية الأولى هي التي تلاشت؟.
انكب على العمل مقررا أن لا يضيع دقيقة واحدة أكثر. يتوقف فجأة. كيف حدث أنه لم يدرك إلى الآن، إذا مات، وذلك الرجل الذي يقدر له أن يكتشف العمل العظيم فيأخذه إلى ناشر، يضيع الوقت في التلكؤ بطبع الاكتشاف، فلن تكون المجلدات المتضررة سبعة أو ثمانية بل العمل كله؟ ما الذي عليه أن يفعله، يتوقف عن الكتابة ويبحث عن ناشر الآن فورا، لتجنب هذه المجازفة، برغم أنه من دون هذه المجلدات الختامية سيكون مستحيلا أن يُظهر بوضوح أن مشروعه رائد أصيل في ميدانه؟ على أية حال، إذا خصص الوقت والجهد للبحث عن ناشر، فلن يكون قادرا على تكريس الوقت الضروري لإعادة كتابة المجلدات بينما هي تتلف، ولن يكون قادرا على كتابة المجلدات الختامية.
ما الذي يتوجب عليه فعله؟ أصبح قلقا جدا. هل كانت حياته بهذا الكدح الذي لا نهاية له عبثا؟ نعم، يمكن أن تكون كذلك. ما الغاية من جهد كبير كهذا، من تكريس وتبتل وتضحية وطيدة؟ يرى أنها كانت نكتة عملية هائلة. يشعر بالحقد يتصاعد في داخله، حقد على نفسه بسبب حياة مبددة، ولأن عدم استطاعته أن يستعيد الزمن الذي بدده لا يرعبه أكثر من تأكده أنه في هذه اللحظة الحاسمة سيكون الأوان قد فات على تقرير كيف يعيش أغلب ما بقي له من زمن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
The Best American Nonrequired Reading. 2018
Divine Providence by Quim Monzó
Translated from Catalan
ولد كيم مونسو في برشلونة سنة 1952، كاتب حائز على الجائزة الوطنية، وجائزة الأدب الكاتالوني، وجائزة برشلونة للأدب القصصي، وجوائز عديدة أخرى عن قصصه ورواياته وعن كتاباته الصحفية في جريدة فان غوارديا (الطليعة) اليسارية.