حازم رعد
لعله من الواضح وبعد انجلاء أي حدث من الأحداث المهمة التي لها ضغط على الواقع وتأثير فيه، وتحدث في الناس أشكالاً مختلفة من التأثير، نظير المعاناة والبؤس والحزن والتعب الشديد، فإن نصوصا مألوفة ووعيا سائدا وفلسفات سيعاد فيها النظر، وستكتب النهاية لصلاحية عدد كبير منها، وسيعلن خروجها عن الفاعلية والنشاط بعد كل حدث سواء كان حربا أو صراعا أو مشكلات تعصف بالواقع الاجتماعي.
إن الريبة وانعدام الثقة والخيبة هي ما سيختصر المشهد العام والخاص بعد كل حدث محزن ومخيب للآمال، وبالمقابل ستنطلق نصوص ووعي وفلسفات جديدة تحل محل التي أفلت. يقترح لنا تولستوي، على نحو أقل مما نحن نتكلم عنه من الأحداث الجسام، إذ يقول ( إن التعرف على أناس جدد يجلب لنا معرفة جديدة، وكلما ازداد عدد الناس، ازداد الذكاء والصلاح، كما تزداد الحرارة بازدياد كمية الفحم )، إذ بحسبه يمكن للعلاقات الجديدة أن تجلب معها معرفة جديدة وتغير في مزاج الأفراد وترفع من مناسيب وعيهم وصلاحهم، ولذا أجد أن الوقائع وهي التي كل ما هو موجود في الواقع، التي تتحلل إلى مشكلات وصعوبات وحاجات ضرورية لحياة الناس ومتطلبات ملحة لمواصلة العيش، والتي من دونها سيتغير شيء ما ويحصل شكل من أشكال الأسى والصعوبة والإشكالية التي تحتاج إلى تفكير وحلول، يلازمها التعب والإرهاق وغير ذلك، وذلك ما يجعل الإنسان يفكر في مفردات جديدة “مفاهيم” تشكل طبيعة علاقته بالطبيعة والآخرين، وتحدد رؤيته الجديدة إلى الحياة وطرق عيشها، فمن الطبيعي أن تتغير المفاهيم وتتبدل وفقاً لذلك .
فبعد بيان زيف العديد من المفاهيم وعدم توفر القدرة فيها على مواكبة الواقع وتحريره، ستبدع وتبتكر مفاهيم ومفردات أخرى يراد منها التعبير عن الواقع الجديد، وهذا أمر يجري في كل الأحداث والوقائع الإنسانية عبر التاريخ .
وكمثال نموذجي على ما نحاول أن نقرره في هذه السطور، أنه كان ظهور ونشأة تيار ما بعد الحداثة “الفلسفي” في الغرب، ردة فعل على تداعيات الحداثة ومفاهيم الأنوار التي أسهمت لنا بحربين عالميتين خلفتا وراءهما فجائع ومعاناة كبيرة عصفت بالمجتمعات الغربية ولا تزال آثارها شاخصة إلى اليوم .
حروب طاحنة وأسلحة ذات خصيصة التدمير الشامل، هي من صنيعة “الغرب الذي يرفع راية الحداثة” والتفوق العقلي، ولم يدخر جهداً إلا واستخدمه في القتل والهتك بل ووظف مخرجات العقل من التطور التكنولوجي لصناعة أدوات القتل المتطورة، “القنبلة النووية التي ألقيت على اليابان أقرب شاهد على وحشية وهمجية هذا العالم المتنور”، فجاء تيار ما بعد الحداثة الذي تبنى فض مركزية العقل وتفكيك الأسس التي قامت عليها عقلانية العصر الحداثي، الذي كان من مخرجاته حربان عالميتان واستغلال بشع للعلم والطبيعة وانهيارات اقتصادية كبيرة وتمايز طبقي بشع بين الفئات المختلفة من البشر، إذن فالأحداث والوقائع عامل مهم في هدم مفاهيم وإعلان نهايتها، وكذلك هي عامل مهم في إنتاج مفاهيم جديدة تتناسب مع الراهن وتعبر عنه، فالأحداث الجارية الآن نهايات عام 2023 في فلسطين وتحديداً في غزة، وما يتبعها من إرهاصات ومماحكات سياسية ودبلوماسية رافضة للغزو أو مؤيدة له، ستكون هي العامل المساهم في إعادة النظر في المفاهيم والقوالب الفكرية السائدة، إذ إن ما يحرك آلة القتل والحرب هو ذات العقل الذي تبنى إشاعة قيم الأنوار والحداثة والديمقراطية. العقل واحد يعمل بذراعين؛ الأولى منهما تصنع المفهوم وتحاول تعزيز حضوره في الواقع البشري، واليد الأخرى تضغط على أزرار تحريك آلة القتل واجتياح المدن وانتهاك الحريات وقتل الأطفال والنساء، وكذلك تحت مظلة المفاهيم الداعية للتمشيط الأمني والحرب ضد الإرهاب وإحلال السلام وما إلى ذلك من مفاهيم مستهلكة يكذبها الواقع، فمثلاً هذه هي أمريكا، ومعها الغرب عموما، تزكم أنوفنا برائحة حديثها عن السلام وحق تقرير المصير، في حين تملأ العالم ببوارجها الحربية وتحيط البلدان الآمنة بالقواعد والثكنات الحربية وتلجم الأفواه المعترضة والممانعة والرافضة للذل والهوان بلجام قوة السلاح والموت .
إن أفق إنتاج المفاهيم في الغرب مختلف تماماً عما يصنعه من هتك وقتل وتعمد احتقار المستضعفين وغض الطرف عن الانتهاكات وسلب الحقوق، وإن منظومة المفاهيم خاضعة في بقاء صلاحيتها للظروف والأحداث، فهي كفيلة بعملية الحكم على صلاحيتها أو التجديد عليها أو الحكم عليها بالنهاية والموت “موت المفاهيم”، ولربما أن أحد معاني موت المفاهيم هو فقدان الثقة بها وبالأهداف المرسومة من ورائها، أو خيبة الأمل الناجمة جراء الازدواجية التي ترافق تبني تلك المفاهيم وطريقة تطبيقها وممارستها على أرض الواقع، ولربما أن معنى موتها هو سقوطها من أعين المستهدفين بها، فالمفهوم ما لم يكن سيرة وسلوكا عند منتجيه ومن يحاولون تطبيقه، يصبح عرضه لفقدان الثقة بالفاعلين بنظر المستهدفين والمتلقين .
إذن فالمفاهيم تتبدل بفعل تبدل الواقع، وكذلك بسبب فقدان الثقة بها من قبل المتلقين، وكذلك بسبب خيبة الأمل الناجمة عن تطبيقاتها المشوهة والانتقائية في إسقاطها على أرض الواقع .