د. نادية هناوي
تتنوّع المذاهب الأدبيَّة في تصوراتها إزاء اللغة وطبيعة تطورها بحسب خصائص كل مذهب، غير أنَّ التطورات التي تكسب اللغة معرفة هي التي تخرج بها عن التخصيص وتضعها في إطار عمومي به تصبح اللغة مذهباً أدبياً وحدها، وظيفتها ليست توضيح الرؤية، بل خلق رؤى تحول القارئ إلى فاعل ذي حساسية مفرطة يتفرج ولكن بمهارة فكرية وطبيعة أخلاقية.
وهو أمر لا نتصور أنه مقصور على الرواية الحداثية أو ما بعد الحداثية، بل هو موجود في الرواية الكلاسيكية عند جين اوستن وجورج إليوت وهنري جيمس وشارلس ديكنز وجوزيف كونراد وغيرهم من الذين لم يقصدوا إدخال اللامعقول في أعمالهم ولا كان الجنون رغبة مكبوتة عبروا عنها في قصصهم، بل لأنهم كانوا يتبعون قواعد راسخة سبقتهم وكانت بمثابة تقاليد عليها بنوا رواياتهم وقصصهم، وفيها كان اللامعقول والمستحيل سمات بها تخاتل اللغة الواقع مخاتلة نفسية كرغبة لا شعورية في التحليق بالواقع خيالياً وبنزعة أخلاقية تجعل الشخصية تكتشف المعرفة في الختام. ولا يرسم القاص ـ في ما يعرضه من أحداث مستحيلة وشخصيات لا معقولةـ سبلاً محتملة لما هو واقعي، إلا بما يحفز المتلقي على تأمل اللاواقعي وإدراك واقعيته فيأخذ من ثم عبرة أو درساً في الإرادة أو الصداقة أو الإيثار أو الحب.. وهلم جرا.
فكانت اللاواقعية متبعة في قصص القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر كما في (كسارة الجوز وملك الفئران) لأرنست هوفمان (1776ــ 1822) وفيها يتحفز القارئ للتأمل فيتعلم درساً أخلاقياً من شخصية الصبي الذي رأى أنَّ الدمى في ألعابه صارت تنمو وتكبر مشكلة خطورة عليه وتحاول الانتقام منه. فالدمى بالنسبة للقارئ ليست أشباحاً متخيلة بل هي أمامه مرئية بمشاعر حقيقية لا غموض فيها. وما دام عنده حدس شعوري وقوة وعي أخلاقي فإنَّ الشخصية لن تكون غريبة الأطوار وهي تخضع لتحبيك منطقي متسلسل. وهكذا تندهش الحواس وتستفز الأذهان وتشحن بالترقب الذي خلاصته التعلم والمعرفة. وهما قيمتان أخلاقيتان لا مجال للكاتب أن يحققهما ما لم يتمثل اللاواقعية كأرضية عليها يبني التقاليد السردية. فيغدو الترميز بالتورية أو التشابه أو الاستعارة أو السخرية حاضراً في كل عنصر من عناصر السرد كنوع من التعويض الفني عن واقع حقيقي. وبهذا يصنع المحتوى اللغوي البناء الفني الذي يجري متسلسلاً ومتصلاً فينتج بدوره محتوى أو مضموناً خاصاً يعبر عن وجود واقعي هو ليس بالوهمي أو السريالي أو العشوائي.
ولقد ذهبت نظرية ياكوبسون في الاتصال الأدبي إلى تأكيد دور اللغة المجازي في جعل ما هو غير مألوف مألوفاً، وما لا انسجام له منسجماً. والقصة استعارة إذا تأكد أنَّ لها ترابطاً واتصالاً يفترضان شيئاً واحداً جامعاً حلمياً ما ورائياً بعلاقة متبادلة بين ما هو واقعي وما هو غير واقعي.
ولا يقتصر أمر استبدال اللغة الواقع بواقع غيره على الرواية، بل هو يشمل المسرح أيضاً الذي فيه حطم بريخت واقعية الإيهام اللغوي الذي يراد منه صناعة عالم موضوعي من خلال مسرحته واقعاً يقوم على رفض هذا الإيهام. وصنع صاموئيل بيكت مسرحيته (في انتظار غودو) من وجهين أحدهما لا واقعي والآخر واقعي، وكذلك شمل الأمر السينما لاسيما عند مخرجين مولعين بتجسيد لا واقعية الطقوس والحكايات الملفقة والأقنعة في السينما والتلفزيون مثل سترنبرغ وهتشكوك حيث الرعب والعجب قوى جذب طبيعية نحو ما هو غير طبيعي.
فاللغة هي الوسيلة في توصيل ما لا تمتلك منطقية تصويره ترابطاً تصويرياً عبر استعمال التلميحات والنبر بأصوات صامتة لا يصغي فيها أحد إلى أحد، لأنَّ الحياة قد تجافي الحوار في صيرورتها. وما من علاقات يمكن أن نجد فيها الحل أو الحقيقة، بل أي شيء يمكن أن يحدث وأي شيء هو محتمل الحصول في الواقع، يفيد من الخيال في نسج أنماط جديدة هي مزيج من الذكريات والتجارب الحرة التي فيها تنشطر الشخصيات ويتضاعف عددها أو يتناقص أو تتبلور جديدة ومنتشرة أو تتجمع.. إلخ وبهذا تظل اللغة هي وحدها المسيطرة على مشاعر الإنسان الحالم.
ومثلما أخذت المسرحيات والأفلام تنماز بالسريالية واعتناق اللامعقول وتجسيد المرعب والعجيب كذلك وجهت الرواية ما بعد الحداثية اهتمامها نحو التعبير عن العالم الحقيقي بطريقة لا واقعية متجاوزة حواجز الوهم ومحققة في ذات الوقت الإقناع حيث الحياة الخيالية تبني الحياة الواقعية.
وإذا كانت الفنتازيا والعجائبية تنطلقان من واقعية حدية، فإنَّ اللاواقعية تنطلق من خيالية حدية أي أنَّ درجة التخييل السردي داخلها تتعدى المحتمل الواقعي. فخيالات كافكا وهوثورن وكونراد وهوفمان وغوغول ونابوكوف ليست فنتازية في تشكلها، بل هي فيض من تهيؤات وانفعالات ومجازات تتشكل لا للإيهام بواقعيتها، بل للإقناع بخياليتها حيث التخييل يبتكر واقعاً جديداً ترتبط عناصره غير الواضحة بمعالم ووشائج متبادلة ومنطقية.
إنَّ العلة في تخليق واقع من اللاواقع هي في اللغة التي هي عمود من أعمدة بناء الجنس الروائي الذي ما تأسست أعمدته إلا لأنه ارتكز على قاعدة شكلتها تقاليد السرد القديم.
وهو ما أدركه كتّاب الجنس الروائي الأوائل الذين فرّقوا بشكل واضح بين الوهم والتخييل لا من ناحية الخلق وإنما من ناحية فاعلية التحبيك حيث التحكم بالحبكة يكون من خلال التخييل وليس العكس. وإذا كان الوهم يحطم ترابطات العناصر فتكون الفنتازيا طريقاً يوصل إلى الواقع، فإنَّ اللاواقعية تتعدى ذلك إلى ما هو أبعد وفيه يكون التخييل طريقاً للترابط، فكأنه هو نفسه الواقع.