باسم عبد الحميد حمودي
الرواية لا تبدأ هكذا، بل تصور جوانب من حياة أسرة بغدادية من الطبقة الوسطى في مجتمع الخمسينيات (وما قبله) من القرن العشرين، مرورا ببغداد المحاصرة تحت القصف الأميركي وطائرات الاحتلال في التسعينيات.تتداخل التواريخ وتتباعد العادات والتقاليد بين بغداد التي تعيشها (نور) و (الكساندرا) التي صار اسمها في بغداد (نادرة) في تداخلات تاريخيَّة بين منتصف القرن العشرين، حيث بنات ثانوية الحريري الجميلات، والشوارع المجاورة.وتمضي فصول الرواية الممتعة لتنقل الحدث التاريخي الذي جرى في قصر الرحاب صباح 14 تموز في إطار روائي مغاير على لسان الملازم ثامر مرافق الأمير عبد الاله.
ومن حسن الصدف أنّ دارنا في الكرخ كانت مجاورة لبيت المرحوم خالد الحمدان والد ثامر (الملازم الأول آنذاك) وعامر الحمدان (العميد الركن وقائد موقع المنصور لسنوات).. وقد شهدت شخصياً عودة الملازم الأول ثامر جريحا في زنده إلى داره بعد أن أنقذ الأميرة هيام آل ربيعة زوجة عبد الإله وحملها بسيارته إلى مستشفى مير الياس لتعالج، ثم تهرب إلى أسرتها.
ثامر الحمدان لم يفصح يومها لنا عن شيء وقد سلم نفسه للسلطة الجديدة التي اعتقلته وضابط الاستخبارات الرئيسي في لواء الحرس الملكي، وهو المقدم الركن محمد الشيخ لطيف الذي كان (خارج التفاصيل الروائية) قد أبلغ ولي العهد وخال الملك بحركة الضباط القريبة من دون أن نجد استجابة واضحة للمقاومة.
مقدمة الرواية تحت عنوان (مئة متر فقط) يرويها الملازم ثامر عن حركة سيده الأمير عبد الإله وهو يجول ليلاً وسط الظلام في المئة متر الفاصلة بين بوابة قصر الرحاب والشارع العام، حيث وجد الأمير يسير حزيناً ويدخن كثيراً وهو يأمره بالانصراف.
كان ثامر الحمدان قبل هذا قد أعطى وصفاً سريعاً لحال القصر الملكي وسكانه.. الملك الصغير وجدته وخالتيه وخاله وزوجة خاله الأميرة هيام.
بدأت الفصول التالية البالغة ثمانية وعشرين فصلاً أو مقطعاً برواية الدكتورة (نور ماضي) وهي تروي بداية ولادة بنت عمها سعدون، وهي الكسندرا من أمها الروسية (ماريا) حيث سمت جدتها (أساور) الكسندرا باسم (نادرة) لتكون حياتها وحياة أمها داخل سياق الأسرة الاجتماعي.
كانت (ماريا) قد سلبت لب الأسرة بتصرفاتها التلقائية الجميلة وظرفها اللامتناهي واستخداماتها لمساحيق التجميل وملابسها المزكرشة المزدانة بالدانتيلات البعيدة عن ملابس الأسرة المحافظة.
كان ارتباط هذه الأسرة بالاسرة المالكة قد تحدد عبر ظرف شخصي عندما توفت والدة بنات ثلاث في منطقة جديد حسن باشا بعد وفاة والدهن بقليل، وقد بقيت أسر المجلة الشعبية تساعد الصغيرات بالطعام والعناية، لكن وجد من أوصل خبر اليتيمات إلى القصر الملكي فأخذتهن سيارة إلى هناك حيث تولت خالات الملك رعايتهن بإشراف الجارية جازية.
واحدة من البنات (نادرة) تزوجها ضابط من الحرس الملكي ونقلها إلى داره في محلة نجيب باشا، وهي التي تولت رواية معظم الأحداث إلى الطبيبة نور ماضي (حفيدتها) عبر شريط مسجل تحفظه الأسرة ضمن موجوداتها عبر أزمنة متتالية، وصولاً إلى الزمن الحالي.
نور تسترجع الشريط الذي تروي فيه نادرة حياتها في القصر، ووفاة الملك غازي والملكة عالية بتسلسل تاريخي معهود وصولاً إلى اليوم الفارق.. يوم 14 تموز، ودخولا إلى صباحه الدامي من خلال ليلة الانتظار لسفر قادم إلى تركيا من قبل الملك الشاب لإتمام زواجه من خطيبته.. وكان مقررا أن يسافر معه خاله عبد الإله وزوجته هيام آل ربيعة ونوري السعيد وبعض الأقارب والوزراء.
تسترجع الروائية تفاصيل ساعة أعدام الأسرة المالكة فجر 14 تموز من قبل الرائد عبد الستار العبوسي.. وتبدو كلمة (خاينلر) التركية التي كانت ترددها الملكة نفيسة جدة الملك الشاب عند احتضارها ملائمة لوصف ما حدث.. كما تبدو الصورة التي رسمتها الروائية للأسرة المالكة الساقطة على الأرض قريبة من الدقة، وهي تصف احتضار خالته وهي تحاول تغطية ساق شابة صغيرة استشهدت معهم أمرا جديراً، مشابها لوصفها التفصيلي لاحتضار الملك وسماعه لأصوات من حوله قبل أن ينقل بسيارة بيكاب إلى المستشفى في محاولة لإنقاذه من دون جدوى.
ذاك مجرى الدم الذي جرى حتى يومنا هذا.. وقد اختاره الزعيم والعقيد والأحزاب السياسية الثورية ثم التكتلات الدينية.. فيما بعد.
ذلك الثمن ندفعه كل حين، وإذا كان العبوسي قد فضل الإنتحار ليتخلص من كابوس اغتيال الأسرة المالكة، فإن الأمر الذي لم تذكره الروائية أن هناك ضابطين آخرين قاما معه بالرماية على الأسرة المالكة لم تشر لهما الروايات المتعددة لعملية القتل.
وإذا كانت رواية خضير الزيدي (الملك في بيجامته) تصور أمر القتل عبر مسرحية خالد الشيخ كمؤلف ضمني تشكيلاً لصورة سوداوية في الجانب السياسي من تاريخ العراق، فإنه وضع الملك الشاب أمامنا خائفا وقد اِرتدى البيجاما.. رغم أن كل الوقائع تنفي ذلك وتشير إلى أنّ الملك كان يرتدي ملابسه السبور اللائقة.
لسنا نتحدث في دقة الأمر، لكن الوقائع التاريخية لايصح التلاعب بها شرط عدم مجافاة الحقيقة التاريخية.. فقد ذكرت رواية (ساعة في جيب الملك) ورواية (الملك في بيجامته) بأنّ العقيد وصفي طاهر هو الذي أطلق الرصاص على الباشا نوري السعيد قريباً من ساحة النصر.
واقع الأمر الذي دققته وصورته في روايتي (الباشا وفيصل والزعيم) التي تناولت هذه الفترة تحديداً، أن وصفي طاهر لم يكن له دخل بقتل الباشا الذي لم يقتله أحد!
كان نوري السعيد قد انتحر برصاص مسدسه، وهو يهاجم من قبل الجنود فمات قبل أن يطلق عليه العقيد إسماعيل الرصاص ويحمله ميتاً في بيكب إلى وزارة الدفاع حيث كان العقيد وصفي واقفا والزعيم قاسم في غرفته بالوزارة.
إن رواية ميسلون هادي الأخاذة تسجيلية في العديد من فصولها، دقيقة الوصف تعتني بالتطورات الحضارية وميثولوجيا الشعوب وهواجس النساء.. لكنها تصافح التاريخ الحي وتكتشف خفاياه البعيدة.
رواية ميسلون هادي توقفت مليا عند رمز سوداوي جاء نتيجة عملية لعبة الساحر الهندي الذي كان يؤدي ألعابه السحرية في قاعة القصر لكل الأسرة، وكان منها ساعة الملك التي غير مكانها من شخص إلى آخر، وسقطت مهشمة على الأرض بعد هذا.. توقف الزمن فيها عند لحظة السقوط.. وعندما أعطوها لضابط مرافق لكي يذهب لإصلاحها في اليوم التالي، لم يعد الضابط إذ انتهى كل شيء صباحاً بقتل الأسرة المالكة وغياب زمنها.
غاب زمن الملوك ليبدا زمن أخر لم تسقط فيه ساعات، بل سقطت قيم لتنمو أخرى أكثر حداثة وأكثر دموية والتفافا على حق الشعب في العيش بحياة حضارية كريمة.. لكن ما تفرزه قيم النبل عبر استذكار الماضي وإدانة الحواف الصعبة فيه يشي بالبدء الأخلاقي، ببناء حاضر جديد أكثر تحضراً وكرامة.