فاروق صبري
أمام بوابة ضخمة يظهر جمهور كبير جداً، الجميع ينتظر، ملامح وجوههم مٌغيبة، تتعالى، تخفت، تتعالى، تتداخل أصوات الجمهور بكلمات متقطعة، غير واضحة.
تنفتح البوابة الضخمة بصمت، يتحرك الجمهور صوبها، يدخل إلى صالة كبيرة الإضاءة فيها خافتة ومزدحمة بالكراسي، على ظهر كل كرسي تلتصق جثة صغيرة ملفوفة بقماش أبيض، يٌهرول الجمهور للجلوس ليجد كل واحد منهم أمامه الجثة الصغيرة الملفوفة بالقماش الأبيض، الجالس على كرسيه يحاول كشف ما موجود أمامه، يتلمس البياض الصامت وهو في حالة هادئة، ولا انفعال يبدو جلياً من اليد التي تلمس الجثة الصغيرة والعيون تٌحدّق نحوها بياضها بنظرات خشبيّة.
يعمٌّ الصمت، الظلام في الصالة، يٌضاء فضاء العرض لتظهر عليه الجثث الصغيرة الملفوفة بالبياض، فضاء العرض مٌزدحم بجثث صغيرة بيضاء، لا فراغ في فضاء العرض، أجساد من البياض تتكوم، تتمدد، تتزاحم ، تتداخل صامتة أفقياً، وعرضياً، فضاء الجثث الصغيرة الملفوفة ببياض الموت.
أضواء خفيفة مٌسلّطة على عيون الجمهور المتوجهة صوب فضاء العرض، العيون الخشبية، الباردة، الخرساء، من بين الجثث الصغيرة المتلاصقة والممتدة في فضاء العرض تظهر إمراة نحيفة كالسنابل ومنتصبة كشجرة الزيتون، تتقدم وعيونها تصرخ وهي تتنقل بين الجثث الصغيرة، تتلمسها وتحاول فتح شيء من الكفن، لكنها لا تجد ما تبحث عنه، وتتواصل راكضة بين الجثث الصغيرة المٌعبأة في الأكفان البيضاء، تركض، تركض وتقف فجأة لترفع رأسها صوب السماء صارخة: (وين ابني، وين، لم ينتعش بعد/ وين، ابني جوعان ومزقته الطائرات، وين، جوعان، وأكيد عطشان وقتلته الصواريخ، وين.. يا ربٌ، يا ررب، يا رررب وين ابنييييي؟!).
حتى السماء لا تردّ عليها، وعيون الصالة «الميدوزية» لا ترد، لغة بياض الجثث الصغيرة تصرخ: يا ررررب.
ومع بدء التعتيم في فضاء العرض، وفي مٌقدمة فضاء الجثث الصغيرة البيضاء تشع عيون المرأة وتصطخب نظراتها بالوجع لكن لا يدركها الصمت: ياغزّة، ياغززّة، يا غززززززززززّة.
عيون الجمهور الخشبية تستعرض الجثث الصغيرة الملفوفة ببياض الموت والملتصقة على ظهور الكراسي والمزحمة في فضاء العرض، تتنقل بينها كما كاميرات الفضائيات وهي تعدٌّ، واحدة، إثنتان، عشرة، عشرات، المائة، 500، 2000، 8000، وآلاف ووومازالت الجثث الصغيرة الساكنة كبياض ثيابها الأخير تمتلئ بها الأرض وتستقبلها
السماء.
ويٌسلّط عليه ضوء «سبوت لايت» يدخل رجل كهل إلى صالة العرض وعلى كتفه الأيمن مسحاة وعلى كتفه الأيسر جٌثّة صغيرة مٌكفنة بالبياض، يقف عند وسط الجمهورفي فسحة ما، ملابسه مثقلة بالطين والتراب، في وجهه غبار مٌتطاير وحزن صارم، ترتجف عيناه مبللة بالدموع: كافي يا جماعة، كافي موت وجثث، المقابر إمتلأت وأعلنت أنها خرجت عن الخدمة، يرمي الرجل الكهل مسحاته جانباً ويٌنزل الجٌثّة من على كتفه ومن ثم ينزع كفنها، وإذا بفتاة صغيرة سمراء اللون تنظر بحزن نحو الرجل الكهل الذي يتحول إلى مراسل تلفزيوني يحمل مايكاً وكاميرة يسأل الفتاة مبتسماً: ما الذي تحلمين به كي تحققيه في المستقبل حينما تكبرين؟
الفتاة السمراء: وهي تٌحدق نحو السماء غاضبة: المستقبل، ماذا أحلم!؟
المٌراسل مٌوسعاً ابتسامته: نعم
الفتاة السمراء بصوت مٌتوجع: لن أملك أي حٌلم وليس لديّ اي مٌستقبل لأنني أقتل وأنا صغيرة..
بياض يزحف صوبه سواد العٌتمة، عٌتمة العيون الخشبية الباردة كبرودة صالة العرض التي تتدفق من سقفها مياه حمراء اللون، طوفان المياه يندفع كالدماء، دماء، دماء، دماء تتساقط على الجمهور والكراسي والصمت وعلى جسد الرجل الكهل المٌتكور على آلة الحفر وهو يبكي وعلى الفتاة السمراء المٌضاء وجهه والمبلل بقطرات المياه الحمراء، تضيق بقعة ضوء يٌظهر فقط وجه الفتاة السمراء والتي تتوجه إلى جميع جهات الصالة لتستقر صوب فضاء العرض المزدحم بالجثث الصغيرة المٌعلقة، المتناثرة، المتمددة، عينا الفتاة تشعان بالمرارة والتساؤلات والابتسامة الساخرة وسط ظلام دامس.
*هذا النص مفتوح للتطوير كتابة وسينوغرافية