حرب {ناطوري كارتا} المقدسة ضد {دولة إسرائيل}

بانوراما 2023/11/09
...

 {لازلو بيرنات فيزبرمي}
 ترجمة: مي اسماعيل

في الملحمة المستمرة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، يشهد العالم نزاعا معقدا طويل الأمد.. هناك تصادم بين المظالم التاريخيَّة والنزاعات الإقليميَّة، والمشاعر العميقة الجذور، يتكشف أمام الناظر كنسيج متعدد الأوجه. ورغم ذلك، وفي متاهة السرديات تلك يوجد فِكر يثير الدهشة وغالبا ما يكون مستترا تحت الظلال.. فكر يتعمق في الجذور اللاهوتية لمناهضة الصهيونية. يتحدى ذلك المنظور الرواية الصهيونية السائدة التي تشكل الحجر الأساس لتأسيس إسرائيل.في قلب ذلك المنظور تقف جماعة "ناطوري كارتا" الدينية، وهي جماعة تتشابك قناعاتها بشكل عميق مع تفسيرها الأرثوذكسي المتشدد للديانة اليهودية. فترفض الجماعة بشدة السيادة السياسية لإسرائيل.

وتؤكد معارضتها للخطة "الإلهية" لخلاص الشّعب اليهودي. ووفقا لمعتقداتهم فإن عودة اليهود إلى المقدسة لا ينبغي أن تكون مسعى يقوده الإنسان، وإنما هو نتيجة للتدخل الإلهي، وتعتبر إيذانا ببدء عصر مسيحي. هنا نمضي في رحلة لكشف تعقيد اعتراضات جماعة ناطوري كارتا اللاهوتية، واكتشاف الخلفية التاريخيَّة التي قادت لظهور المشاعر المعادية للصهيونية من داخل اليهودية، والنظر لجوهر معتقداتها، والتناقض المحير المتمثل في ارتباطاتها علنا بالجماعات المعادية لإسرائيل.

الحركات المناهضة للصهيونية
لأجل أن نفهم، على نحو واضح، الاعتراضات اللاهوتية التي برزت إلى مقدمة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، يجب علينا أولا النظر إلى سجلات التاريخ، وهو تاريخ يتسم بالتعقيدات والايديولوجيات المتصارعة. يكشف الفصل الأول المحوري ظهور المعارضة "الحريدية" للصهيونية خلال أوائل القرن العشرين. (Haredi= الحريديم: جماعة من اليهود المتدينين الأصوليين، يلتزمون بالشعائر الدينية ويعيشون حياتهم اليومية وفق التفاصيل الدقيقة للشريعة اليهودية، ويحاولون تطبيق التوراة في إسرائيل. المترجمة، ويكبيديا). أرست تلك المعارضة الأسس اللاحقة للاعتراضات الدينية التي ستتحدى مستقبلا الخطاب السائد في إسرائيل. تتجذر المعارضة الحريدية بعمق في التزامها الثابت بالمبادئ الدينية، مما دفعها للوقوف في تناقض صارخ مع الطبيعة العلمانية للكيان السياسي في الأراضي المقدسة.
يتكون اسم جماعة "ناطوري كارتا" من كلمتين آراميتين تعني "حراس المدينة"، (إشارة إلى المثل الوارد في "تلمود القدس" بأن حراس "المدينة"، أي القدس، هم أهل الدين المتدينين وليسوا الجنود).
انشقت هذه الجماعة بحلول العام 1938 عن الجماعة اليهودية الأرثوذكسية "أغودات يسرائيل"، التي رفضت الصهيونية في البداية، لكنها إتخذت فيما بعد موقفا عمليا من الفكرة والحركة الصهيونية. ومن وجهة نظر هذه الجماعة فإن الدولة اليهودية ليست مجرد انتهاك لوصية دينية، بل "استيلاء" على رموزهم وقيمهم وهويتهم اليهودية، وهي أيضا سبب لصراع دموي يعاني فيه اليهود والفلسطينيون الأبرياء.
كثفت آثار الحرب العالمية الثانية وأهوال المحرقة المناقشات الدينية داخل المجتمع اليهودي. إذ تصارع اليهود في الشتات، الذين ما زالوا يعانون الخسارة المذهلة، مع ضرورة توفير ملجأ آمن للناجين منهم. وبدا للكثيرين منهم أنّ إنشاء دولة إسرائيل في العام 1948 قد حقق حلما دام قرونا بالعودة إلى وطن أجدادهم. ومع ذلك، أشعل هذا الحدث الهائل نزاعات لاهوتية داخل المجتمع اليهودي، إذ عارضت جماعات مثل ناطوري كارتا بشدة الحكم العلماني
للدولة.

القناعات الدينية للجماعة
ترتبط معتقدات ناطوري كارتا اللاهوتية العميقة (وبشكل معقد) بتفسيرهم الأرثوذكسي المتشدد لليهودية.  ومع جذورهم التاريخية التي تعود إلى أوائل القرن العشرين، فإن التزامهم الثابت بالمبادئ الدينية دفعهم إلى معارضة الطبيعة العلمانية للدولة الإسرائيلية. في أعقاب الانتفاضة الثانية التي انطلقت أواخر أيلول 2000، واجه ارتباطهم بمنظمة التحرير الفلسطينية ودعمهم لها عواقب وخيمة، مما دفعهم لتحويل أنشطتهم إلى خارج إسرائيل. في عالم الخطاب الديني أصبحت جماعة ناطوري كارتا تحديا كبيرا للسرد الصهيوني السائد، الذي يشكل الحجر الأساس للدولة الحديثة. وبينما ظهرت الصهيونية في البداية كحركة قومية علمانية، فقد حصلت على دعم واسع النطاق من المجتمع اليهودي
العالمي.  ومع ذلك، لا تجد رواية "العودة إلى أرض الأجداد" صدى يذكر داخل صفوف حركة ناطوري كارتا الدينية فهي لا تؤمن بفكرة العودة وتأسيس الدولة اليهودية. إذ أنّ قناعاتهم الدينية لا تكتفي برفض الطبيعة العلمانية للدولة فحسب، بل وتشكك أيضا في الشرعية الدينية للكيان الإسرائيلي وترى أنّه لا ينبغي أن ينشأ إلا من خلال أمر إلهي. ويؤمن أفراد الجماعة أن الكيان السياسي الحالي لدولة اسرائيل بسلطتها العلمانية قد انحرف عن الإرادة الالهية التي ترفض أساس قيام الدولة بمعزل عن إرادة الرب.

تناقض مُحيّر
تمثل جماعة ناطوري كارتا المعارضة للصهيونية تناقضا محيرا للدولة العبرية.. فمع اعتراضها على وجود دولة اسرائيل، تصطف مع الجماعات المعادية علنا للدولة اليهودية. وتظهر تلك المفارقة بأوضح صورها مع مشاركات ناطوري كارتا النشطة في التظاهرات والمؤتمرات التي تشجب وجود دولة اسرائيل بحد ذاته، بل وحتى إلى حد التعامل مع القادة الذين يدعون علناً إلى تدمير الكيان الإسرائيلي. هذا التناقض يفتح الباب لسيل من الأسئلة الحاسمة، ويسلط الضوء على الحدود الضبابية لمناهضة الصهيونية داخل المجتمع اليهودي. كما يدعو للتدقيق في خط العمل الدقيق للجماعة بين الرفض الديني للحركة الصهيونية والتعاون مع الجماعات التي تدعو علنا إلى إبادة دولة إسرائيل.

الفرق الدينية اليهودية
بينما يمثل موقف جماعة ناطوري كارتا منظورا لاهوتيا فريدا، فان من الضروري معرفة آراء وردود أفعال الجماعات اليهودية الأخرى على آراء تلك الجماعة. قد يكون للمنظمات اليهودية الداعمة لإسرائيل مواقف لاهوتية مختلفة، فعلى سبيل المثال عبرت منظمات مثل "اللجنة اليهودية الأميركية– AJC" و"رابطة مكافحة التشهير-ADL" عن رفض شديد لتحالف جماعة ناطوري كارتا مع الجماعات المعادية لاسرائيل. وهم يجادلون أنه رغم وجود تعددية الرأي داخل اليهودية، فإن موقف معاداة الصهيونية المتشدد الذي تتبناه حركة ناطوري كارتا يتجاوز الخطوط اليهودية، خاصة حينما يتعلق الأمر بالتعاون مع من يدعون علنا إلى تدمير الدولة اليهودية. وعلى العكس يرى بعض أفراد المجتمع اليهودي بأنّ مثل هذا التنوع في الآراء هو شهادة على التعددية داخل اليهودية، مؤكدين أنّهم ومع اختلافهم في الرأي مع آراء ناطوري كارتا، فان القدرة على اعتناق آراء مختلفة والتعبير عنها تمثل قيمة أساسية ضمن التقليد اليهودي. لكن تضمين وجهات النظر المتنوعة تلك يسلط الضوء على النسيج المعقد للمعتقدات اليهودية، فيما يتعلق بالصهيونية ومعاداة الصهيونية. ويؤكد المختلفون مع الجماعة أنّه بينما يعتبرون موقف ناطوري كارتا غريبا، لكنه ليس المنظور الوحيد ضمن المجتمع اليهودي، وإن الجدل الحاد هو جزء من الخطاب اليهودي.  

تحدي معاداة السامية
لكي نصل إلى فهم أعمق للتعقيدات التي ينطوي عليها التمييز بين الاعتراضات اللاهوتية المشروعة وحالات معاداة السامية، يتوجب دراسة تعريف "تحالف إحياء ذكرى الهولوكوست" لمعاداة السامية وسياقه التاريخي. يجد ذلك التعريف جذوره من سياق تاريخي ممتد لقرون، ولا يشجب التعبيرات الصارخة عن الكراهية ضد اليهود فحسب، بل يتعمق أيضا في أشكال أكثر دقة من التحيز، خاصة تلك التي تتحدى حق اليهود في حكم انفسهم ضمن السياق الاسرائيلي، (بمعنى أن إنكار حق اليهود في تأسيس دولة اسرائيل يمثل التهمة بمعاداة السامية- المترجمة). يعكس التعريف الفهم التاريخي لمعاداة السامية، التي تعاظمت بطرق وامتدادات متنوعة، من العنف المباشر والتمييز إلى أشكال مؤذية، بما في ذلك التشكيك بشرعية المطالبات اليهودية بإقامة دولة. فبحسب تعريف التحالف فإن كل من يشكك بهذه المطالب فهو معاد للسامية. ويوفر إطار التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست إدراجا صريحا لمعاداة الصهيونية عندما يصل إلى حد إنكار حق اليهود في تقرير المصير. علاوة على ذلك، يقر التعريف بأن انتقاد الدولة، مثل أي دولة أخرى، يكون مشروعا عندما يستند إلى أدلة واقعية ولا ينحرف إلى الشيطنة، أو نزع الشرعية، أو المعايير
المزدوجة.

تضارب وجهات النظر
يكمن التحدي في النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي في التمييز بين الاعتراضات العقائدية الصحيحة على الصهيونية وبين الانتقادات التي تنحرف إلى معاداة السامية. وبينما تقدم تعريفات تحالف إحياء ذكرى المحرقة التوجيه، إلا أنّ الخطوط العملية لحدود معاداة السامية غالبا ما تكون غير واضحة، مما يثير نقاشات حول الخنق المحتمل للخطاب الديني الشرعي داخل المجتمع اليهودي. يلخص الموقف المتناقض لناطوراي كارتا هذا التحدي، إذ يرفض أفراد الجماعة بشدة وجود دولة اسرائيل، ويقيمون في الوقت ذاته تحالفات مع الجهات المعادية للكيان الاسرائيلي علنا، مثل إيران ومنظمة التحرير الفلسطينية.. وهذا مثال حي على هذه المفارقة. وتزداد المشكلة تعقيدا بسبب مجموعة متنوعة من ردود الفعل داخل المجتمع اليهودي، إذ غالبا ما تؤيد المنظمات اليهودية الموجودة (والتي تعتبر مؤيدة قوية للدولة) وجهات نظر لاهوتية مختلفة. وبينما تنظر المنظمات لتأسيس دولة إسرائيل عام 1948 بوصفه تحقيقا لحلم قديم بالعودة إلى ارض الاجداد، فإن هذا الخطاب لا يلقى صدى يذكر بين الجماعات الدينية المتطرفة مثل ناطوري كارتا. إذ لا تكتفي قناعاتهم اللاهوتية برفض الطبيعة العلمانية للكيان السياسي، وإنما رفض فكرة الحكم السياسي ونظامه برمتها. فإن وجهة نظرهم تقول أنه لا ينبغي إضفاء الشرعية على الكيان السياسي الذي ينحرف عن الالتزام الديني الصحيح بالشريعة اليهودية.

تحقيق التوازن الدقيق
في الخطاب المستمر المحيط بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، تطرح الاعتراضات اللاهوتية التي أثارتها جماعة ناطوري كارتا ضد الصهيونية معضلة معقدة، تتردد عميقا ضمن عالم حرية التعبير وتترك آثارا على القوانين العالمية لمعاداة السامية والأمن القومي. ويُشكل موقف ناطوري كارتا تذكيرا مؤثرا بالتوازن الدقيق المطلوب لحماية حرية التعبير، مع مواجهة المخاوف المتعلقة بخطاب الكراهية المحتمل. وفي بعض الأحيان تقاطعت تحفظاتهم اللاهوتية المتجذرة من القناعة الدينية ضد الصهيونية مع مواقف سياسية تتحدى أساس ومشروعية دولة إسرائيل. كما يُساهم البعد الديني لتلك الجدلية في الحوار المستمر عن التعريف الدقيق لمعاداة السامية.
بالطبع فان التمييز بين الاعتراضات الدينية الصادقة والتعبير عن معاداة السامية مهمة معقدة. فوسط عالم يتسم بالانقسامات، يمثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بوتقة للخطاب العاطفي، لكن تعزيز الحوار البناء بين المجموعات المتنوعة لا يمثل مسألة حماية حرية التعبير فحسب، بل يصبح أيضا وسيلة لتخفيف التوترات ومنع الأعمال المتطرفة. ويصبح تشجيع بيئة يمكن أن تتعايش فيها وجهات النظر الدينية والسياسية المختلفة بسلام ضرورة حتمية متجذرة في كل من المبدأ والأمن. لذلك تمثل التعقيدات المحيطة بالمواقف الدينية لجماعة ناطوري كارتا وانعكاسها على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تحدياً متعدد الأوجه، وهذا المشهد المعقد، يتنقل عبر مجموعة متنوعة من المعتقدات وسط خلفية صراع شديد التنافس.

موقع {الكونسيرفتيف المجري}،
موقع: ميديوم- {ذا راشيونال فورم}