حرب بلا أفق أنهكت معنويات الأوكرانيين

قضايا عربية ودولية 2023/11/09
...

• أندرو إي كريمر
• ترجمة: أنيس الصفار                                            

رغم سماعها دوي المدفعية كل يوم وهي تدكُّ البلدات المجاورة تتوجه مديرة مدرسة في جنوب أوكرانيا إلى أهالي التلاميذ لتطلب منهم تقديم التبرعات من أجل بناء ملجأ جديد ضد القنابل.
جندي وفتاته، بعد أن فقدا الأمل بقرب انتهاء الحرب ضد روسيا، قررا الاستمرار بمشروع خطوبتهما المؤجل رغم أنهما لا يملكان أدنى فكرة متى سيمكنه العودة إلى حياته ومنزله.
امرأة جثم الاكتئاب على قلبها منذ أشهر بسبب عدم الاستقرار، لذا قررت أن تنصرف عن القلق وتستسلم لخيالها متصورة أن السلام ربما سيحل في الربيع المقبل .. ربما .. مع تفتح الأزهار.
تقول المرأة، واسمها “تيتيانا كوسكا” وتعمل في إحدى أسواق العاصمة الأوكرانية كييف: “شعرت بأقصى درجات اليأس.. لذا أخذت أصور في حلمي أنها سوف تتوقف”.
بينما الجيش الأوكراني يراوح في الخنادق الممتدة على طول خط المواجهة، عاجزاً عن التقدم مع شعور بأن الاسلحة من الحلفاء لن تصل إلا بعد فوات الأوان وأنها ستأخذ الآن بالتضاؤل، يزداد تشاؤم الأوكرانيين بشأن الآمال بتحقيق نصر سريع.. هذا هو ما أظهرته استطلاعات الرأي والمقابلات. ذلك التطلع إلى المستقبل بعين ملؤها الأمل، الذي كان محور العجلة في معركة أوكرانيا بوجه عدو يفوقها قوة بكثير، قد انثلم.
كانت النتيجة أمة أخذت تَعِدُ نفسها، بشيء من التسليم والوجوم، لحياة تمثل الحرب فيها مكوناً ثابتاً دون نهاية تلوح في مرمى البصر.
هذا الآن توجه سائد بين الناس ولكنه لا يعني رفع الراية البيضاء، فالأغلبية العظمى من الأوكرانيين لا تزال متحدية ومؤيدة للرئيس “فلوديمير زيلنسكي” ولها ثقة بجيشها، غير أن الروح التي دفعت بحشود من عمال الحانات وسائقي الشاحنات وأساتذة الجامعات الأوكرانيين للتطوع في الجيش عقب الغزو الروسي في شباط 2022 لا تزال واضحة إلى اليوم، ولو أن حِدَّتها قد خفتت عدة درجات كما يظهر من استطلاع للرأي أُجري مؤخراً.  
كشفت استطلاعات الرأي ودراسات المجاميع المنتخبة عن أن الاستعداد لتقبُّل تسوية عن طريق المفاوضات مع روسيا قد ازداد زيادة بسيطة لكنها ملحوظة لأول مرة منذ بداية الغزو، حيث ارتفعت النسبة من 10 بالمئة إلى 14 بالمئة، ولو أن الغالبية العظمى من الأوكرانيين لا تزال ترفض بعناد مبدأ السلام مقابل الأرض.
تشير استطلاعات الرأي إلى أن الأوكرانيين كانوا على أقصى درجات التفاؤل في الشتاء الماضي أبان فترة الاستعداد التي سبقت الهجوم المضاد في الجنوب. منذ ذلك الحين أخذت الثقة تتراجع بجميع مؤسسات الدولة عدا الجيش، وفقاً لعملية مسح أجراها معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع، وهو من أبرز مؤسسات استطلاع الرأي في البلاد. كذلك وجد المعهد أن الثقة بالحكومة قد انتكست من 74 بالمئة في شهر أيار إلى 39 بالمئة في شهر تشرين الأول الماضي، وهي الفترة التي انطلق بها الهجوم الأوكراني قبل أن يأخذ بالتعثُّر.
آخر مكسب عسكري مهم تمكنت أوكرانيا من تحقيقه هو استعادة مدينة خيرسون، وقد كان ذلك قبل عام. من حينها، ورغم انقضاء أشهر من القتال الدموي في الخنادق وسقوط عشرات الآلاف من القتلى والجرحى لم يتحقق تغير يذكر في ما يخص الموقف على الأرض.
في الأسبوع الماضي قدم القائد العسكري الأعلى في أوكرانيا، الجنرال “فاليري زالوجني”، تقييماً صريحاً بشأن توقعاته لمستقبل بلده على المدى القريب حين أخبر مجلة “إيكونومست” بأن القتال قد استقر على وضع “لاغالب ولا مغلوب”. كتب زالوجني يقول إن الهجمات الآلية تُمنى بالفشل وما لم تتوفر أسلحة تكنولوجية أكثر تقدماً فإن وضع الحرب سيستقر عند مرحلة جديدة طويلة.
هذا الاستنتاج هو نفس ما توصل إليه “أندري كاتشيك” عمدة قرية توخليا في غرب أوكرانيا الذي تطوَّع لحمل جثث الجنود القتلى من الجبهة والعودة بهم إلى مدنهم وبلداتهم وإقامة شعائر الجنازة لهم. ففي حوار معه قال كاتشيك إنه سمع الكثير عن المعارك الدموية القاسية التي تدور لمجرد التمسك بالمواقع وأصغى لشكوى الجنود الذين أنهكتهم الحرب من نقص العتاد والذخائر.
يقول كاتشيك: “الشبان الذين في الجبهات أصابهم الإرهاق جسدياً ونفسياً. إنهم منهكون وهذه الحرب سوف تبقى مستمرة لفترة طويلة”.
يمضي كاتشيك مبيناً أن مشاعر الإحباط تتصاعد، ومن ضمن ذلك إحساس القرويين الفقراء بأنهم يموتون في حين يجد المدنيون من أبناء العوائل الميسورة طرقاً وأساليب للتهرب من الخدمة العسكرية. التهرُّب من الخدمة العسكرية مستمر بالتزايد حيث يختبئ الرجال كي يتفادوا استلام الإشعارات المرسلة اليهم أو يحاولون رشوة المسؤولين في مراكز التجنيد المحلية.
يختتم كاتشيك كلامه قائلاً: “في كل قرية قبور .. والوضع يسوء”.
الأوكرانيون، الذين كانوا ذات يوم سريعين في التعبير عن تشككهم بشأن أداء الحكومة التفوا حول العلم عندما ابتدأت الحرب واسعة النطاق، وقد أدى ذلك إلى رفع الثقة بالسيد زيلنسكي والجيش وكافة مؤسسات دولتهم المهددة تقريباً.
هذه الروح أخذت تتبدد أيضاً مع تعثر التقدم العسكري وتوقفه على وقع القصف المدفعي اليومي وتصاعد أعداد الضحايا.
عندئذ انحدرت الثقة بزيلنسكي من 91 بالمئة في شهر أيار إلى 76 بالمئة في شهر تشرين الأول، كما توضح نتائج عملية المسح التي أجراها معهد كييف، ولو أن أغلبية الأوكرانيين لا تزال محتفظة بقدر من تلك الثقة. هناك استطلاعات أخرى للرأي تظهر أن درجة الرضا عن أداء السيد زيلنسكي قد سجلت 72 بالمئة.
توصل استطلاع المعهد أيضاً إلى أن 48 بالمئة فقط من الأوكرانيين لا يزالون يثقون بقنوات الأخبار التلفزيونية التي تسيطر عليها الحكومة، المسماة “تيليمارافون”، والتي تبث على الهواء تقارير مفعمة بالتفاؤل عن العمليات العسكرية التي تدور في الجنوب. القصد من تلك البرامج هو تعزيز الروح المعنوية لدى الأوكرانيين في وقت كان جيشهم فيه يحاول إزاحة القوات الروسية عن ساحل بحر آزوف، إلا أن انحرافها عما يدور على الأرض من أحداث أدى في النهاية إلى إشاعة الشك بين الأوكرانيين.
قال “أنتون هروشتسكي” مدير معهد كييف في مقابلة أُجريت معه: “لنكن صادقين .. لقد أصبح الناس متشائمين”.
يضيف هروشتسكي أن التوتر مستمر بالتزايد والأوكرانيون يريدون المضي في حياتهم بأمان ولكنهم لا يرون أمامهم آمالاً تبشر بخير.
يقول هروشتسكي أن هذا الشعور المتغلغل بعدم الأمان في أوكرانيا أدى بالأوكرانيين إلى البحث عمن يلقون عليه باللائمة.
يقول السيد هروشتسكي متحدثاً عن تعثر المحاولات لاستعادة الأراضي، أي وضع اللاغالب ولا مغلوب على حد تعبير الجنرال زالوجني: “لا يصف الناس الحرب بأنها فاشلة، كما أنهم لا يلومون الجيش.”
بيد أن الغضب مستمر بالتصاعد في الداخل بسبب الفساد الحكومي وكذلك على الحلفاء الغربيين الذين أخذوا يتباطؤون في تسليم الأسلحة من وجهة نظر الأوكرانيين.
تظهر عملية مسح أُجريت بتفويض من الاتحاد الأوروبي أن عدد الأوكرانيين الذين يعتقدون أن الغرب لا يريد لأوكرانيا أن تنتصر في الحرب قد تضاعف من نسبة 15 بالمئة في العام الماضي إلى 30 بالمئة.
عدا ذلك بدأت تظهر خطوط تصدع وخلاف بين السياسيين داخل البلد أيضاً. فالذين يدعمون السيد زيلنسكي يميلون أكثر لإلقاء اللوم على الحلفاء في حين يلفت خصوم زيلنسكي السياسيون الأنظار إلى الفساد المستشري في الداخل.
في شهر تشرين الأول خرجت تظاهرات صغيرة أفصحت عن نقاط توتر أخرى. فقد ضغطت عوائل الجنود الأوكرانيين الذين فقدوا أثناء المعارك على الحكومة في كييف طلباً لإجوبة تتعلق بأبنائها، في حين احتجت عوائل الجنود الذين لا يزالون في الخدمة العسكرية منذ بداية الحرب مطالبين الحكومة بسحبهم من الجبهة وإحلال آخرين محلهم. كان هتاف هذه العوائل في ساحة الميدان وسط كييف “لقد حان وقت مشاركة الآخرين”.
يشير الاستطلاع إلى أن خيبة الآمال التي كانت معلقة على تحقيق الجيش نجاحاً خلال الصيف هي الدافع إلى هذا التشاؤم.
فبعد شتاء عمّه الظلام في العام الماضي عندما استهدفت روسيا محطات الطاقة الكهربائية ومحطات التحويل الفرعية وتسببت بالتعتيم شعر الأوكرانيون بالأمل مع عودة التيار الكهربائي في الربيع.
يقول الروائي الأوكراني “أندريه لايوبكا”: “قلنا لأنفسنا ها نحن قد نجحنا .. لقد انتهى كل شيء وسوف يكون هناك الآن هجوم مضاد. شعرنا حينها بهذا التفاؤل الملهم”.
أما الان فإن العوائل تسمع حكايات الجنود في الخنادق حيث تغرقهم أمطار الخريف لتجعل حياتهم أشبه ما تكون بصورة آتية من عصور التاريخ البعيدة مشقة وعنفاً، على حد تعبير لايوبكا.
حصاد الخنادق سيل مستمر من القتلى والجرحى، حيث قال المسؤولون الأميركيون في أحدث تقدير لهم في شهر آب الماضي أن عدد الأوكرانيين الذين قتلوا في الحرب قد ناهز 70 ألفاً وأن أكثر من 100 ألف آخرين أُصيبوا بجراح. أما الحكومة الأوكرانية فلا تقدم من جانبها أي إحصائيات حول الإصابات والضحايا.
ينظر كثير من الأوكرانيين بتطيُّر وهلع إلى تسييس المعونات العسكرية في الولايات المتحدة وسلوفاكيا وبولندا ودول أخرى. ويقول لايوبكا إن مرحلة قلق عظيم قد ابتدأت.
بيد أن تقديم أي تنازل لروسيا ينطوي على خطر ترك ملايين الأوكرانيين تحت الاحتلال ليواجهوا احتمالات القمع والاعتقال والإعدام.
في قرية بلاهوداتني بمنطقة خيرسون جنوبي أوكرانيا شعرت مديرة مدرسة اسمها “هالينا بولوكان” أن الوضع قد أمسى آمناً الآن بدرجة تسمح بإعادة فتح المدرسة الابتدائية رغم أصوات الانفجارات اليومية من أماكن قريبة، لكنها عانت الأمرِّين من أجل تجديد السرداب لجعله ملجأ من القنابل بتبرعات جمعتها من المجتمع المحلي.
تقول: “أحاول جهدي أن أرسم ابتسامة على وجهي، وها هم الناس الآن يحلمون بملجأنا الجديد من القنابل”.
في يوم خريفي اشتدت رياحه في مدينة كييف مؤخراً خرج “سيرهي مايخايليوك”، وهو جندي في قوات الدفاع الجوي، يتمشى مع خطيبته “ييكاترينا بوردايوك”. تقول بوردايوك: “هناك حزن طبعاً في كل يوم يغيب فيه عن المنزل، ولكن الحرب ستستغرق وقتاً طويلاً، لا مجرد سنة أو سنتين أو ثلاث، ولقد تعودنا عليها بشكل ما”.  
عن صحيفة “نيويورك تايمز”