سوق الدماء

الصفحة الاخيرة 2023/11/12
...

محمد غازي الأخرس

ويقول العراقي واصفاً من لا يفوت فرصة دون استغلالها لمصلحته: يدور بالـ…. حب ركي، أي إنه مستعد للبحوشة في الفضلات القذرة للعثور على حب الرقي، ليجففه ويملحه ويقليه. هذا الحب (البزر) يسمى بعد إعادة تصنيعه بـ (حب أحمر)، بينما يسمى حب البطيخ بالـ(الحب الأبيض). تذكرت مثلنا العراقي البليغ هذا وأنا أتابع أولئك الذين استغلوا مآسي غزة أبشع استغلال، سواء كانوا منافقين أو صانعي محتوى وآراء. أما المنافقون فهم الباحثون في الدماء عن الدنانير والدولارات، وأحياناً الأمجاد الشخصية. هؤلاء تجار الحروب والمآسي، الذين لا يتورعون عن فعل أي شيء لتحصيل المنفعة. إنهم موجودون دائماً، في أي زمان ومكان، لا يقتصرون على شعب أو دين أو أيديولوجيا، ويترافق ظهورهم مع اندلاع الحروب، ثم يتناسلون في ظلها مثل الفطر. 

 عملياً، يتنوع هؤلاء بحسب الزوايا التي تتيح لهم تحصيل المنفعة، وأولهم تجار المواقف ونهازو الفرص وراكبو الأمواج، سواء كانوا ساسة أم مثقفين، أم صناع رأي ممن ينتظرون مآسي الشعوب لينزلوا بها إلى المزاد، إذ لا بضاعة رائجة في أزمات كهذه مثل دماء الأبرياء المسفوحة. إنهم سليلو حملة (قميص عثمان) الملطخ بالدماء، الذين اعتدنا ظهورهم بعد الإجهاز على الضحية ليطالبوا بالثأر لها أو الثورة على قاتلها. تراهم ينظمون من أجل هذا القصائد الشعبوية، ويدبجون الخطب الرنانة، ثم يشرعون في الترنم بها بملامح غاضبة، ليغازلوا مشاعر العامة ويعزفوا على وترها الحساس.  

صحيح، قد يكون من بينهم من هو صادق بخطابه، لكن دائماً وأبداً، لا تمثل نسبة الصادقين شيئاً يذكر قياساً بباعة المواقف من الضباع الذين يملؤون العالم ضجيجاً. لكأن دماء الضحايا تتحول وقوداً لقاطراتهم أو زاداً لموائدهم. والغريب أن هؤلاء عادة ما يكونون أول المتاجرين بالأقاويل، وآخر المشاركين بالأفعال. 

قبل أيام مثلاً رأيت مثقفاً عربياً ستينياً في برنامج سياسي، يكاد يبكي وهو يقول إنه يتمنى الذهاب للقتال في غزة، ولكنه سيكون عبئاً على الشبان المقاومين هناك، لأنه كبير في السن. ثم قال إن غزة لا ينقصها الشجعان، بل شعبها في غنى عن أي أحد. حينئذ تساءلت: فلماذا تكاد تبكي يا رجل؟ ماذا تريد بالضبط من خطابك الانفعالي هذا؟ والجواب ببساطة أنه يتاجر، يبيع للشارع ما يطلبه في اللحظة الراهنة، يريد كسب جمهور جديد باستثمار ما يجري. ليس بالضرورة أن يكون مثل صاحبنا سياسياً، فقد يكون مثقفاً أو فناناً، لاعباً أو صانع رأي، كاتباً أو مدوناً، فالجميع يستطيع استثمار  اللحظة والمتاجرة ببضاعة العصر المطلوبة بقوة. 

ثم ماذا؟ لا شيء غير ما رأينا وسمعنا؛ طوفان الأقصى أنعش عمل بنائي السفن الوهمية، ضخ بضاعة هائلة إلى بازار النفاق، فتحولت دماء آلاف الشهداء الفلسطينيين إلى كلمات وخطب وأغان وقصائد. بمعنى آخر، أنعشت هذه الحرب سوق الإعلام، فصارت القذائف تقارير، وساعات حوار سقيم في الفضائيات. آلاف الأخبار والتحليلات كتبت، وملايين الدولارات أنفقت، أجور صرفت ورواتب دفعت، رواتب هي في هيئتها الظاهرة عبارة عن أوراق نقدية، لكنها في هيئتها الحقة، ليست سوى دماء ودموع، ليست سوى أنقاض بنايات وأشلاء أطفال. 

شيء محزن، والأمر هكذا دائما؛ في الحروب ،كل شيء يغدو (حب رقي)، فاجتهد يا هذا لتعثر عليه!