هويدا محمد مصطفى
يستعيد الفنان ناظم حمدان في لوحاته، حالات ورؤى غرائبيَّة يمكن أن نشاهدها في أحلام وصفها "ماكس أرنست" بأنّها خطوة في اتجاه البحث عن مشاعر الخلاص من ويلات الحروب ودمارها.
والرؤى السورياليّة التي يجسّدها تشكل فسحة لتسجيل مفارقات الحياة العصريَّة داخل عناصر الأشكال المتخيلة والمعبرة عن تناقضات الواقع الحياتي الراهن .
وتتميز لوحات حمدان بتصوير المرأة بطريقة قريبة من المنحوتة الحجريَّة، وهذا ينطبق على بعض الأشكال المحورة الأخرى.. بمعنى أنّه "يجسد النحت بالرسم في بعض مقاطع لوحاته"، وقد تظهر العناصر الإنسانيَّة، في لوحات أخرى على هيئة ظلال لا أجسام لها.
الفنان يرفض اتجاهات الرسم العفوي، ويركز على الرسم بلمسة لونيَّة واعية فيها الكثير من التفاصيل الدقيقة، كما نجد في لوحاته تشكيلات هندسيَّة (مكعبات، مثلثات، زوايا، خطوط مستقيمة ومتقاطعة ومتوازية أحياناً).. ولكن، كل ذلك يطرح تساؤلات عن التقنية الخاصة التي يعالج عبرها حالات تكثف من إيقاعات الغرابة في فسحة اللوحة.
هكذا، يقوم بتوليف أشكال الواقع وترويضها، متبعاً تداعيات الحركة الداخليَّة، ويكشف عمّا يمكن أن يجري في الأحلام أو في معطيات الذاكرة اللا واعية. وهذا يعني أن مخيلته تكتنز بالرموز والأشياء الغرائبيَّة.
لم تكن إطلالات هذه العناصر في لوحاته إلّا خطوة لتلاقيها بين الماضي والحاضر والمستقبل، عبر الخطوط والألوان والأشكال وتنويعات رموز المرأة، من منطلق، أن فنون وآداب الشرق كانت سباقة في اكتشاف تجليات الحلم السوريالي الخيالي، وخاصة قصص ألف ليلة وليلة.
فالهاجس الخيالي يطل ويتنوع ويبرز، في خطوات بحثه عن ايقاعات تشكيليّة جديدة فرضتها وبشكل غير مباشر أحلامه وتخيلاته التي يعود اليها للانفلات من حالات البؤس الإنساني، في خطوات تصوير الرموز الغامضة والخفيَّة والاسطوريَّة.
إنَّها تشكيلات رصينة وعقلانيَّة نراها ضمن التمثيلات، وبكل التحديدات والتفاصيل الصغيرة والدقيقة أي بصورة بعيدة عن نهج التبسيط. ففي اللوحة الواحدة يعمل على توليف أشكال الواقع من عناصر إنسانيَّة ومقاطع من "رصيف، وطيور وأقفاص، وسلاسل كبيرة، وملاقط غسيل وغيرها"، كل ذلك في خطوات الوصول إلى أجواء غرائبيَّة تسجل عصب لعبة إيقاعه التشكيلي المدروس والموزون، إذ يبتعد عن القفزات المفاجئة للتشكيل ويعمل ضمن صياغة لونيَّة متقاربة (تعتمد على لغة الرماديات) على الرغم من بروز إيقاعات الأبيض، الذي يسجل عبره "لولبيَّة العمق والبُعد" في تشكيل عوالم عناصره السورياليَّة.
والتقنية الخاصة التي يجهلها المتلقي، ليست سوى وسيلة لإخراج اللوحة، أما الأسلوب فهو الرؤية الجديدة التي تعطي الفنان خصوصيَّة واستقلاليَّة.
ومن هنا يتجاوز الأساليب التقليديَّة، بتشكيلاتها الجديدة والخاصة، ويحقق أسلوبيته وبصمته الخاصة عبر خطوات توليف لمعطيات وتداعيات أحلامه السورياليَّة .
وفي هذا الإطار يمكن القول إنَّ له طريقته الخاصة في توليف الأشكال واختيار الألوان. لذا يتجه نظرنا للإحساس بأسلوبيَّة خاصة في المعالجة التكوينيَّة والتلوينيَّة.
يمكنك معرفة أعمال حمدان من بين الأعمال المحليَّة والعالميَّة. ويمكن رؤية شخصه في كل لوحاته رغم اختلاف محتواها. فهو فنان متفرّد برأيي لدرجة يصعب فيها قراءة أعماله للوهلة الأولى، لكن ما أن تتأملها للحظات حتى تجد فيها شروحات عدة، ربما لن تتمكن من التعبير عنها بكلمات لكن داخلك اختزنها بكل تأكيد لأنّها سوف تلامسك بشكل أو بآخر.
خير الألوان ما قلَّ ودلَّ.. "أسود، أبيض، فضي وذهبي" وندرة من الألوان المقتضبة الزاهية في لوحاته التي باتت يُعرف من خلالها صفة "التفرّد" أو المتفرّد في أسلوبه وطريقة استخدامه لألوان تأخذك لأربعة عوالم غرائبيّة وسورياليّة وفانتازيّة والأهم هو عنصر المفاجأة.
أيضا، تلفتك مفردة تكاد لا تخلو منها أعماله، ألا وهي المرأة. تخلق تلك المفردة في نفسك تساؤلات عدة منها ما تجد له جواباً، ومنها ما تتوهم أنّك قد وجدت له جواباً. لماذا المرأة! ولماذا في غالبيتها مغيبة الرأس!، ما سر الورك العريض والصدر الممتلئ؟، ولماذا هي عارية وتجدها مرة مقيدة أو محاطة بأدوات حادة كسكين أو مسمار أو حتى دبابيس وملاقط، وأخرى منتصبة شامخة ممتلئة؟، ولكن في كل حالاتها هي ممتلئة الورك كأنّها رسالة من حمدان يؤكد فيها أنَّ "المرأة هي الخصب والحياة مهما تعددت المفاهيم وساءت الأحوال".
ومن المفردات المتكررة في بعض لوحاته، تقول بصريح العبارة، "حمدان لم يغادر البلاد"، فبمجرد النظر إليها يقرأ المتلقي الحرب السورية بأوجاعها من ألم وجوع وموت وصولاً إلى أمل يبقى مرافقاً بشكل أو بآخر.
ومن أبرز تلك المفردات "الجماجم والعظام" ولعل أهمها لوحة لمدينة غزت الجماجم والعظام كل شبر فيها، رغم المرأة التي تشغل المتلقي وهي تقف منتصبة تحاول الخروج من كل ذاك الركام، امرأة ممتلئة برأس أخفاها سواد القمر، لكن يداها التفتا حانيتين على بعضهما كإشارة أمل.
شخصية حمدان الممتلئة ثقافة ومعرفة وحياة تقرأها في زخم عناصر اللوحة الواحدة، وشخصيته الرصينة الثابتة والجدية تعثر عليها في دقة عمله الذي يتطلب ساعات طويلة قد تصل أحيانا إلى المئة ساعة لينجز لوحة واحدة. والأمل الذي ينبثق من ألمه وألم وطنه تجده واضحاً في كائناته العديدة.