د. حامد رحيم
إنّه زمن الفوضى وضعف إنفاذ القوانين في العراق، والاقتصاد دائما الحلقة الأضعف كونه الحيز الجاذب للجماعات الباحثة عن الثراء والتمدد على حساب حقوق الناس، الفساد في ظل (اقتناص الدولة) يصبح هو المتحكّم بمقدرات البلد الاقتصاديَّة، وفي الدولة الريعيَّة (Renter State) ذات المورد الواحد لا يحتاج هؤلاء الكثير من العناء بمجرد أن تحاك الخيوط حول المورد النفطي لتحكم القبضة على الإيرادات الريعيَّة وعندها يصبح الاقتصاد كالخاتم في الاصبع.. عند ذلك تصبح القوانين الاقتصادية مجرد حبر على ورق.
قوانين الضريبة والتعرفة الجمركية والاستثمار وغيرها كلها بلا قيمة اقتصاديّة فعليّة والدليل المساهمات المالية في الموازنة العامة لتلك المتغيرات التي لم تتجاوز في أفضل أوضاعها (7%) فقط، حتى قانون الاستثمار الذي فشل في إحداث تغيرات جوهريّة في خارطة الناتج المحلي الإجمالي النفطي بامتياز بينما الصناعة التحويليّة مثلا لم تتجاوز معدل نسبتها (2%) فقط.
ما يهمنا هنا هو القانون الذي شرع عام 2004 ليمنح البنك المركزي الاستقلالية المفترضة التي تعني حرية البنك في وضع وتغيير السياسة النقديّة من دون ضغوط خارجية بالشكل الذي يضمن تحقيق أهدافه التي شرعها القانون، وكل المتغيرات النقدية هي تحت تصرفه وعلى رأسها (سعر الصرف) المتغير الذي يتمتع بأهمية كبرى نتيجة للواقع الاقتصادي المختل هيكليا.
هل البنك المركزي كان هو المحدد لسعر الصرف على الأقل في مرحلة التغيير الكبير نسبيا في زمن الحكومة السابقة صعودا؟ المراقب يلمس بوضوح أن الهدف من التغيير كان هدفا (ماليا) بامتياز جاء لتغذية العجز المخطط للموازنة العامة في حينها، حتى مهمة السيطرة على سعر الصرف وضبط إيقاع التقلبات في السوق الموازي هو المهمة المحورية للبنك المركزي لارتباطها بالتضخم وقيمة العملة الوطنية، لكن السؤال هنا هل البنك يتمتع بالاستقلالية في تحديد السياسات الكفيلة بالمعالجة في ظل التذبذب الكبير في قيمة سعر الصرف بالنسبة للسوق الموازي؟، التقارير تشير بوضوح إلى ضغوط من نوع آخر يتعرّض لها البنك المركزي متمثلة بالإرادة الامريكية هذه المرة التي تحاول جر البنك إلى سياسات تمنع تسرّب الدولار إلى جماعات ومصارف تتعامل بالتهريب والتجارة مع دول معاقبة وعلى رأسها ايران وسوريا، وهنا المعادلة الحرجة التي جعلت البنك بين المطرقة والسندان، من جانب الولايات المتحدة هي المورد الأساس للدولار عبر حساب العراق في الفيدرالي الأمريكي بالمقابل الاجندات المغايرة التي تمثلها الجماعات الداخلية التي تحكم قبضتها على الاقتصاد والسياسية في العراق وتملك ورقة التعيين والاقالة للمحافظ.
أصبح البنك المركزي وسط هذه المعادلة يبدو وكأنه لا يملك القرار ولا استقلالية في ظل ذلك بشكل أكيد، فالمنصة والاتمتة التي فرضتها أمريكا جاء قبالها الضغط الداخلي ليوسع البنك على اثرها مبيعات (Cash) عبر النافذة، وحتى سياسات بيع الدولار للمسافرين غير المنطقيّة عبر تحديد حصة شهريّة للمسافر مما حول بعض الشركات السياحة إلى مضاربين بالدولار، وقضية (الكارتات) التي صرنا نسمع بين الحين والآخر عن ضبط المئات منها في المطارات معدة للتهريب، وغير ذلك مما دفع الولايات المتحدة إلى الضغط من جديد وهذه المرة نحو إلغاء دور البنك المركزي في بيع الدولار عبر النافذة وقيامه بمهمة التحويل لأغراض التجارة للاستعاضة عن ذلك بعمليات التحويل المباشر بين المصارف الداخلية والخارجية (المراسلة) والتي ستطبق بداية العام المقبل وعلى ما يبدو أن الولايات المتحدة تيقنت بعدم قدرة البنك على مواجهة هيمنة الجماعات الداخلية، فبادر البنك إلى تقليص حصص شركات الصرافة من الدولار، بل شهدنا في الآونة الأخيرة تصريحات (شديدة اللهجة) من قبل محافظ البنك المركزي حول سعر الصرف الموازي ما مضمونها (ان التهريب لدول الجوار هو أحد العوامل التي رفعت سعر الصرف الموازي)، وهذا يعني أنّه حشر يده في (عش الدبابير) مما دفع بعض الأطراف الداخلية لإثارة ورقة (اقالة) المحافظ.
الملخص لكل ما تقدم أن غياب القدرة على إنفاذ القانون جعل البنك المركزي في حرج كبير لإيجاد التوازن المطلوب في السيطرة على سعر الصرف، فالأجندات متقاطعة تماما بين القطبين الخارجي المتمثل بالولايات المتحدة والداخلي المتمثل بالجماعات القابضة على الريع النفطي والقرار السياسي، وقاد ذلك إلى حقيقة مفادها أن الدولار العراقي خارج نطاق الأجندة الوطنية ولن يحقق أي اثر تنموي.