بغداد: سينما
أحب الجمهور العراقي والعربي عموما المخرج الفرنسي يوناني الأصل غوستا غافراس، لأسباب ليس اقلها موضوعة أفلامه التي تنحاز لخيارات الشعوب في اختيار أنظمة حكمها الخاص، بعيدا عن انقلابات العسكر بيادق أميركا ورأسمالها المتوحش، كذلك روح اليسار التي كانت متوهجة أيام سبعينيات، فمن ينسى تهافت الجمهور البغدادي على سينما سميراميس يوم عرض فيلم غافرس المثير للجدل "Z" (1969) إلى حد ان انقطع السير في شارع السعدون البهي، يومها كان الشارع العراقي يهيمن عليه اليسار، فتحولت مشاهدته إلى كرنفال سياسي، ما اقلق السلطة يومئذ وأرعبها ، فسارعت إلى منعه.
يحكي فيلم " Z" قصة اغتيال الدكتور اليوناني غريغوريس لامبراكس الطيبب اليساري المحبوب والنائب المهلم، الذي اغتالته الطغمة العسكرية وسط اتباعه، لتتولى التحقيقات بشكلٍ مثير ومشوق، لتسفر عن صفحات من الفساد والجريمة لنظام عسكري مرتبط بالمخابرات المركزية الأميركية، فينتهي بإسقاط الطغمة الفاشية في يد العدالة، هذا الفيلم التي انتجته الجزائر بعد ان اسقط بيد مخرجه، اذ لم يجد ممولا لفيلمه، سوى هذا البلد الافريقي، الذي شهد قبل فترة ليست بالقليلة انقلاب هواري بو مدين على رفيق دربه أحمد بن بلا، وربما من حسن حظ غافراس، الذي ضاقت به السبل لقاؤه وزير الاعلام الجزائري محمد صديق بن يحيى، الذي اقنع الرئيس، بومدين بدعم الفيلم فتم تصويره بالجزائر التي تشبه اثنيا من بعض النواحي، حيث تجرى الأحداث، في البداية رفض هواري بومدين رفض قائلا : " كيف انتج فيلم يتحدث عن الانقلابات وانا قدت انقلاب منذ سنتين" لكن ابن يحيى اقنعه انه سيكون دعاية للجزائر ونظامها الجديد، وفعلا نجح الفيلم وحصل على أوسكار ، فضلا عن شهرة عالمية غير مسبوقة.
وعرض فيلمه "حالة حصار"(1972) في بغداد، الا ان فيلمه الخطير " المفقود" 1982الذي يتحدث عن المفقودين في تشيلي بعد الانقلاب الدموي على سلفادور أليندي وحكومته الوطنية، أثار ضجة واعتبرتها اميركا تشهيرا بها، وعلى الرغم من كل هذه العراقيل قدم غافراس المولود في اليونان عام1933 لأسرة فقيرة تعمل في السياسة، فأبوه شيوعي في المقاومة اليونانية، بعد الثانوية هاجر إلى فرنسا ودرس الآداب، لكنه تركها إلى دراسة السينما، عمل مساعدا لرينيه كلير، بعدها بدا يخرج أفلامه، التي تميزت بموضوعاتها السياسية واسلوبها الفريد بتشويقه، التزم بالخط اليساري واتاحت له باريس فسحة من التفكير الحر والابداع، فقدم أفلاما معظمها تجنّس ضمن "السينما السياسة الملتزمة"(وقتها كان مصطلحا رنانا)، منها فيلم "المغدور" 1988، ومن أفلامه الأخرى "صندوق الموسيقى"(1989)، ولديه فيلم بعنوان "مدينة الشر"، واخر اخرجه مع عباس كياروستامي ولاس هالستروم
بعنوان "الأضواء وما شابه" (1995)، بعدها بسنين انجز رائعته "غرب عدن" وافلام أخرى عديدة.
ما يهمنا في سيرة ها هذا المخرج الجسور الذي بلغ التسعين عاما، إخراجه فيلما عن القضية الفلسطينيَّة بعنوان " حنا ك" (1982) عن القضبية الفلسطينيَّة، وان كاد يطيح بسيرته المهنية، اذ قاطعته شركات هوليوود الكبرى وغيرها، إلى حدٍ أنه اضطر إلى أن يروّج للفيلم بنفسه، عرض الفيلم في سينما سميراميس، وشاهدناه في بغداد والحرب العراقية الإيرانية في أوجها .. ويحكي قصة المواطن الفلسطيني سلمان بكري(محمد بكري)، الذي يعود إلى بيته الذي احتله اليهود وغيروا معالمه، يلقى القبض عليه، فتدافع عنه محامية يهودية تدعى حنا كيمبسون (جيل كلايبورغ ) انتدبتها المحكمة العسكرية، فتنجح في الإفراج عنه، لكنه يعود مرة
أخرى.
الفيلم لامس جوهر القضية الفلسطينيَّة وقدمها بخطاب ورؤية تلائم العقل الغربي.. فثمة أصحاب الأرض وهؤلاء هجروا من موطنهم وانتشروا في الشتات، بينما تكدس الباقون في مخيمات، وإصرار الفلسطينيين على العودة، بينما لا يوجد عند المحلتين سوى منطق توراتي موغل في الخيال والغربة، الفيلم وعى مبكرا لضرورة الوصول إلى حل عملي يسمح للمواطنين الأصليين بالعودة، أنصف الفيلم الفلسطينيين وأثار غضب إسرائيل والغرب، فقاطعوه وحاصروه.