شبح الأوبرا: ملاك الموسيقى المُعذَّب
ترجمة وإعداد: مي إسماعيل
جرى تعديل رواية شبح الأوبرا-The Phantom of the Opera “ للكاتب الفرنسي غاستون ليرو- Gaston Leroux” الأصلية (الصادرة عام 1910) مرات عديدة، وقدمها المسرح والسينما بإصدارات مختلفة. فكيف كان ذلك التنوع مقبولاً لدى الجمهور المعاصر؟
حادث قصر غارنييه
كثيراً ما تناقلت الإشاعات وجود شبح يجوب أرجاء مبنى دار أوبرا باريس (المعروف بقصر غارنييه). يتجاهل البعض تلك الإشاعات على أنها خرافة؛ لكن الكثيرون يصدقون أنها حقيقة؛ أثبتتها واقعة حدثت يوم العشرين من أيار 1896. فبعد انتهاء الفصل الأول من أوبرا “هيلي”، للمؤلف “إتيان جوزيف فلوكيه” سُمع صوت عالٍ تبعه انهيار جسم ثقيل وسط عاصفة من الغبار. لقد أذابت نار اندلعت على سطح المبنى الأسلاك التي تحمل الثقل الساند للثريا؛ فانهارت تلك الأخيرة وقتلت بعض المتفرجين. ونقلت بعض الصحف أن الثريا سقطت على خشبة المسرح. قرأ الصحفي “غاستون ليرو”، الذي كان يعمل في صحيفة “لوماتان” عن الحادث؛ فوظفه (مع إشاعات وجود الشبح) ليكون مادة الهامة في رواية عن رجل مشوّه يهدد طاقم التمثيل والمسرح في فرقة أوبرا بقصر غارنييه. نشرت الرواية لأول مرة في دورية “الغال- Le Gaulois” عام 1909 بعنوان “Le Fantôme de l’Opéra”، ثم نُشرت الرواية بالفرنسية عام 1910، ثم بالإنكليزية عام 1911 تحت عنوان”The Phantom of the Opera”.. ألّف ليرو كتباً من أدب الروايات البوليسية، ألهمت كتاباً مثل “أجاثا كريستي”؛ لكن اسمه عرف خارج فرنسا فقط برواية “شبح الأوبرا”؛ التي أنتجت أفلاماً ومسرحيات موسيقية.
ولد ليرو عام 1868، لوالد صانع سفن ثري، فعاش طفولة مريحة ونشأ محباً للإبحار وصيد السمك والسباحة. عمل بعد الدراسة كاتباً بمكتب محاماة؛ لكنه خصص وقت فراغه لكتابة القصص والشعر. ثم درس القانون في الجامعة، وتنبأت نجاحاته بأنه يتجه لمهنة محاماة لامعة. توفي والده عام 1889 تاركاً له مليون فرنك؛ ما لبث أن بدّدها بعد انغماسه باللهو والمقامرة وارتياد المسارح والحفلات؛ ليصير مفلساً بعد ستة أشهر! اتجه ليرو إلى الكتابة (لحاجته المادية وشعوره بالإحباط من النظام القضائي)، وأصبح صحفياً متمرساً. نقل ليرو قضايا عامة هامة ثم أصبح مراسلاً أجنبياً في إفريقا والقارة القطبية، ثم- الثورة في روسيا. وأصبحت تقاريره (بلغتها المنمقة) أمراً يُعتمد عليه لرفع توزيع الجرائد. لكنه سأم من الصحافة وركز على الروايات، ونشر مجموعة من القصص القصيرة؛ ثم أولى الروايات عام 1907: سر الغرفة الصفراء. استوحى ليرو من تجاربه الخاصة مراسلاً للمحكمة ومن المخبر الاستشاري شيرلوك هولمز لآرثر كونان دويل؛ فكان عملاً قليل الإثارة ولكنه حقق التوازن المناسب بين الغموض والذكاء لجذب القراء الفرنسيين. استمر بتقديم الأدب البوليسي، لكنه قدم أيضاً روايات كان منها- شبح الأوبرا. توفي ليرو عام 1927 في مدينة نيس بعدما رأى تحويل رواياته إلى أفلام.
الرعب في الموسيقى
يعتبر شبح الأوبرا واحداً من أقدم الوحوش الكلاسيكيين الذين قدمتهم السينما، وواحداً من الأكثر إخافة. وبعدما ولد في رواية فرنسية، وظهر في فيلمين صامتين ومسرحية موسيقية ناجحة في برودواي؛ كان له تأثير كبير في عالم الرعب الفني.
جرى تقديم المسرحية على لسان راوٍ يتحدث عن قصة رجل مشوّه يعيش تحت سقف أوبرا باريس مطلع القرن الماضي. إنها الموسيقي/ الشبح “إريك كلودينErik Claudin-” “ المهووس بحب مغنية الأوبرا الواعدة “كريستين دايي”.. هو منجذب إلى جمال صوتها، ويقنعها بأنه “ملاك الموسيقى” الذي حدّثها والدها المتوفى عنه. تصبح كريستين حائرة بين إخلاصها “لملاك الموسيقى” كما تظنه، وبين تعلقها بحبيب الطفولة الفيكونت “راؤول دي شاغني”. وحينما تُنكِر الشبح وحبه لها؛ يسعى الأخير لانتقام مرعب ومميت.
كان سرد الراوية العنصر الأقوى في مهمة إثبات الدليل على وجود شبح دار الأوبرا الفرنسية؛ إذ يغوص النص في بحث يسحب القارئ ويقدم له مقابلات مطبوعة للشرطة وروايات شهود العيان (من الممثلين والجمهور معاً). حازت الرواية شعبية بين الجمهور وبعض النُقاد؛ وزادها وقعاً أنها قُدمت بصورة أجزاء متسلسلة في الصحف الفرنسية والبريطانية والأميركية. ومن هناك أخذتها السينما الأميركية.
وحش أم ضحية؟
تعكس قصة “شبح الأوبرا” رغبات الناس ومخاوفهم وتحدياتهم وهواجسهم، وإذا بحثنا عن أسباب شهرتها علينا الأخذ بالاعتبار نوع الرواية وأدب العصر الذي أنتجت فيه. جرى تصنيف أغلب أساليب تقديمها على أنها “خيال قوطي-Gothic Fiction”؛ يجمع بين الرعب والرومانسية. وقد حظي أدب الخيال القوطي بشعبية كبيرة في القرن العشرين الذي أُنتج فيه لأول مرة.
تدور أحداث القصة في وقت كانت فيه الثقافة في طريقها للتغيُّر اجتماعياً وفنياً؛ تبعاً لمتغيرات التوسع الصناعي حينها. حدث ذلك التغير في البنية الاجتماعية في أنحاء متعددة من العالم في الوقت عينه تقريباً؛ مما ساعد القصة على جذب لجمهور أوسع انتشاراً؛ إذ أنها كانت قابلة للتكيّف. قدم الكاتب الشخصية الأصلية للشبح على أنه “الموت الحي”؛ فهو ينام في تابوت وملامحه تشبه الهيكل العظمي، ويوصف في الرواية بأن رائحته تشبه رائحة الموت. وبدا من الواضح أن وجود “الشبح” برمَّته (بصيغة “الشبح”) هو رابط رئيسي للموت؛ وهو أمر يستكشفه الجمهور الحديث بنجاح. تعود قدرة الشبح على القتل وفعل أي شيء يريده إلى طرق غامضة وعبقرية؛ مما يجعله شخصية مرغوبة ومرعبة معاً. إنه مرعب لأنه يستغل الناس لتحقيق رغباته واحتياجاته، ويُذكرّهم بمصيرهم إذا لم يطيعوه. والمثال الرئيسي على ذلك أنه يتحكم بمغنية الأوبرا “كريستين” كتمويه باستخدام صوتها، كما يستخدمها كحافز له لإنتاج أفضل مؤلفاته. لكنه أيضاً يسيطر عليها لتكون في حالة أشبه بالغيبوبة، مما يؤثر في حياتها الخاصة؛ لأنه يريدها أن تكون له وحده. ذكاء وشخصية ومواهب الشبح وأساليب تفكيره تجعله كياناً جذاباً؛ وهو يمتلك سيطرة كاملة على مبنى دار الأوبرا وكل من فيه.. وهذا يُظهر للجمهور أنه مهيمن وقوي.. سيطرة المؤلف الموسيقي/ الشبح “إريك كلودين” على الموقف هي واحدة من المفاتيح الرئيسية للرواية، وهي التي تجتذب الجمهور إلى القصة؛ كما أنها بقيت محوراً ثابتاً في جميع إصدارات الرواية وتعديلاتها.
باستثناء نسخ السينما الصامتة، قدمت النسخ الأكثر حداثة من “شبح الأوبرا” تاريخ الشبح قبل أن يقابل كريستين. وبطبيعة الحال جرى تصويره كطفل محروم من الحب والمودة، يتلقى الإساءات من المحيطين به، ممن يحكمون عليه ويسخرون من تشوهه؛ كما أن مظهره جعل من الصعب على عائلته أن تحبه؛ وهذا يمنحه العدالة لتلقِّي التعاطف والرحمة من الجمهور. يعيش إيريك في حالة إنكار ويغطي وجهه الذي يعتقد أنه ملعون، كما يرفض هويته التي تنعكس على الآخرين؛ حيث لا أحد يناديه باسمه الحقيقي. يقول إيريك في فيلم أنتج عام 1925: “إذا كنتُ الشبح؛ فلأن كراهية الناس جعلتني كذلك”. وإذ تستمر التعديلات وتحديثات إصدارات الرواية؛ نرى أن الشبح أصبح أقل وحشية وجرى تقديمه أكثر فأكثر بموقع الضحية. جاء في نسخة فيلم “شبح الأوبرا” للمخرج الأميركي “آرثر لوبين” عام 1943 ان إيريك لم يولد مشوهاً؛ بل عانى جرّاء إلقاء الحامض عليه؛ وهذا منظور يجعله ضحية بالتأكيد أكثر من كونه وحشاً (كما جاء في نسخ سابقة). وهذا النوع من الاعتداءات ما زال يقع في يومنا هذا؛ مما زاد من ارتباط الشبح بالجمهور المعاصر. إضافة لكونه غريباً في عالم قاسٍ يصدر أحكاماً لا يفهمها.
شبح الأوبرا على الشاشة
أُنتجت الرواية مرتين في أفلام صامتة؛ كان أحدها فيلم ألماني عام 1916؛ لكن كافة توثيقات الفيلم ومتعلقاته فُقِدت اليوم؛ ما عدا أنه صُّوِر في ألمانيا وأخرجه: “إرنست ماتراي”. ثم كان الفيلم التالي عام 1925 من بطولة “لون تشاني”. لكن الرواية هنا تحولت إلى كوميديا رومانسية ملتوية رفضها الجمهور بشدة. مالبث الاستوديو أن أعاد تقطيع الفيلم وإعادته إلى مسار الرواية الاأصلية؛ فنالت النتيجة النهائية إعجاب الجمهور والنقاد أواخر العام ذاته، وحقق نحو مليوني دولار أرباحاً. تولى “تشاني” (الذي سبق له أداء شخصية “أحدب نوتردام”) مهمة إعداد مكياج شخصية الشبح بنفسه وبحريّة حسب طلبه؛ فأسبغ عليها ملامح الجمجمة، وأضاف أسناناً ناتئة لإكمال التأثير. وطبقاً لرواية المشاهدين أنه أثار الفزع بينهم حينما نزعت كريستين قناع الشبح بغتة وكشفت وجهه الحقيقي. ويمكن القول إن رسم ملامح الشخصية ذاك كان الأقرب إلى وصف الرواية؛ بينما في انتاجات لاحقة جرى تقديم الشبح بوجه محروق أو مشوَّه بالحامض.
الشبح في العروض المعاصرة
ابتكر الملحن الشهير “أندرو لويد ويبر” مسرحية موسيقية مستوحاة من رواية ليرو، وبكلمات “تشارلز هارت” و”ريتشارد ستيلجو”. عُرضت لأول مرة في لندن عام 1988 وفي برودواي (الولايات المتحدة) في ذات العام، و حصلت على إشادة النقاد وجوائز متعددة. كانت المسرحية الأطول عرضاً في برودواي؛ إذ استمرت حتى 16 نيسان 2023، بعدما احتفلت بالعرض رقم عشرة آلاف منذ عام 2012. وفي لندن استمرت حتى عام 2020 ؛ إذ قاطع وباء كوفيد-19 العروض. كما أُنتج فيلم سينمائي عام 2004 عن تلك المسرحية من إخراج “جويل شوماخر”؛ حاز على نقد متفاوت الآراء.
لم يعش ليرو طويلاً ليرى مدى نجاح روايته؛ إذ توفي عن 59 سنة ونحو ستين رواية؛ كان أشهرها “شبح الأوبرا” و”سر الغرفة الصفراء”؛ وهما الوحيدتان المتبقيتان بصيغة مطبوعة حتى اليوم. لكن عمر روايته الأشهر فاق عمر كاتبها؛ بتقديمها المتعدد المتنوع، وأصابت نجاحاً كبيراً حول العالم.. ولعل الشبح نفسه سيكون سعيداً بذلك..
المصادر: موقع “غريدز فيكسار”، تروي لينون- صحيفة “التلغراف” اليومية، موقع “مكتبة راباهانوك المركزية – فرجينيا”