حيدر حيدر وسرديَّة التماهي مع الأزرق

ثقافة 2023/11/15
...

دعد ديب

البحر، الاتّساع، العمق، الصّفاء، الجموح، الهيجان، السّحر؛ كينونةٌ انتمى إليها حيدر حيدر (1936 - 2023) مبكرّاً، فجعلت من الأزرق ملاذاً يهرع إليه كلّما اشتدّ الحصار حوله، وضاقت به سبل الحياة، وغدا الأزرق لديه رفيقًا وصديقًا ومعادلًا لأعماقه الثّائرة، واسِمًا أغلب نصوصه الأدبيّة بميسمه، النّصوص التي تنوّعت بين الرّواية والنّثر والقصّة، متضمِّنة ثيماتٍ مختلفة، منها: البحر، والمنفى، والسّجن، والرّفاق، والمرأة، والأنذال. وها هو حيدر حيدر يولي ظهره لذلك كلّه مغادرًا بعد حياة حافلة بالعطاء ونتاج ثرّ ومتنوّع جعله يتصدّر مدوّنة السّرد العربيّة بامتياز.
والواقع أنَّ القارئ والنّاقد يحار في تجنيس نصوص حيدر حيدر، حيث تتداخل الكتابة النّثريّة لديه مع الإيقاع الشّعريّ والحكاية السّرديّة، وتناوش مشهداً أو فكرة أو رأياً مزاوجةً بين الخاصّ والعامّ، هادفةً إلى تعميق المبنى السّرديّ. ونستطيع أن نلحظ في مجموعاته القصصيّة احترافيّة عالية في كتابة فنّ القصّة القصيرة عبر اقتناصه مشهديّات من الحياة والتّاريخ تخلّلها نبش للذّاكرة الخاصّة بالفرد، فضلًا عن الذاكرة الجمعيّة وإعادة صياغتها عبر تطويع الخطاب السّياسيّ في مواجهة طواغيت الظّلام، ورغم أنَّ حيدر لم يجهد نفسه في وضع نصوصه ضمن جنس أدبيّ قارّ إلّا أنّه اخترق المفهوم التّقليديّ للقصّة القصيرة، وقارب تقنيّات متطوِّرة باقتدار في معظم نصوصه التي يظهر فيها التّشظّي والتّشتُّت؛ وميله إلى اللاتحديد واللاتعيين، ولم يحرص على وضع تخوم فاصلة بين هذه النّصوص؛ وزاوج بين جنسين أدبيين وأكثر في كتابته للنص الواحد، وصنع خلطة أجناسية جديدة، وأفاد منها في وضع مفهوم مغاير للنّص الذي ابتدعه، وقد أربك بفعله هذا بعض نقاده وقرائه، لمن واجهه بذائقة تقليدية تميل إلى الانضواء في خانة النص المسوّر بقالب محدَّد، وهذا ما يمكن أن نلاحظه في قصّة “الوعول” التي يستهلّها بإهداء لمن قاوموا الإرهاب وعصور الطّغاة والفاشيست بالدّم والنّفي والسّجن والجوع، محذّرًا ومذكّرًا بأسطورة إتيلا:
(وجيوش إتيلا تدقّ نوافذ الأوردة
أضيئوا. أضيئوا.
فإشعاعات الدّم؛ وحدها المصابيح
في هذه اللّحظة العمياء)
إذ يتبدّى في متن هذه القصّة واقع الاغتراب والنّفي والسّجن والملاحقة والموت، وتتداخل في نسيجها الحكائيّ البدايات مع النّهايات، الماضي مع الحاضر لعاشِقَيْن مخذوليْن عبر تناوب صوتين سرديّين بين الرّجل والمرأة وحضور البحر رفيقهما ومعبدهما المقدّس وسريرهما الملتهب، وحيث يظهر واضحًا التّشتُّت والتّشظّي، ومناوشة اللّايقين، إذ نحن لا نستطيع أن نتأكّد من أنَّ الرجل التقى تلك المرأة أم أنَّ ما حدث بينهما ليس سوى هذيانات حلميّة ضجّ بها الرّأس المحموم المُثقَل بالوجع والعذاب عبر تهويمات متنقّلة بينه وبين المرأة. لقد بدا لنا الرّجل ضائعاً بين امرأة الحلم وامرأة الواقع المستكينة للأعراف والتّقاليد والحاجة؛ وتتّضح من خلال ردّة فعل هذه المرأة أنَّ الرّجل مزهوّ بفتوحاته ومحظيّاته وجواريه اللواتي منحهُنّ له مجتمع شرقيّ ذكوريّ ينهض على التّراتبيّة الجنسانيّة. ولذلك لم يشأ أن يتخلّى عمّا يتنعّم به في حياته من متع، ولم يشأ أن يمنح أنثاه الفرصة لتحقيق ذاتها بوصفها إنسانة مع أنّه مثقّف وصاحب مبدأ، لقد حرص على إبقائها سجينة المفاهيم التي يدّعي مناهضتها والخروج عليها، ما جعلها تسأم وتضجر من ازدواجيّة شخصيّته، وتقرِّر التّمرُّد عليها وهي في حالة استلاب ويأس ونكوص عن كلّ التزام:” إلى الجحيم قلت لنفسي مرّة لأخرى، وأنا أبعثر رموزي، وأشيائي وتاريخي وسطوة الرّجل الوفيّ، وعلامات الإخلاص والبراءة، ووهج الشّموس الضّاحكة”.
 ولا مراء في أنّه كان لدى هذه المرأة جنوح إلى رؤية مجهولٍ ما واستكشافه، إلا أنَّ الرّجل لم يفهم ذلك إلا على أنّه خيانة لا يطهّرها سوى القتل. تلك صورة رجل وامرأة وردود أفعالهما تجاه حدث واحد نسجه حيدر باحتراف من خلال مونولوج داخليّ أظهر دافع كلّ منهما. وهذا ما يهجس به صوت المرأة عندما يهتف: “كونوا حقيقيّين، وبعدها فكّروا بتغيير العالم”، أمّا الرّجل فقد فوجئ بما تفوّهت به المرأة، وصاح: “آه .. آه .. الطُّفولة .. إلى أين رحلت؟”، وقد توازى هذا مع قول حيدر حيدر: “النقاء والبراءة وصفاء العالم وهوس الحريّة، امتزجت بالدّم وتموّجات الرّوح منذ الطفولة، هذا العالم الأوّل، شبه الطُّهرانيّ، سينكسر في ما بعد، ويغتال عبر صدمة الوعي مع اضطرابات العالم الموضوعيّ.”
ولا يكتفي حيدر بذلك بل يتجرّأ على اختراق عالم المحرّمات وكسر التّابو عندما يناوش مفهوم الجنس، مردِّداً بصوت الرّاوي: “هل نحن نحبّ أم نتحرّى قوّة انبثاق العالم البدائيّ فينا”؛ وذلك في مراوغته للمعنى، وفي مزاوجته بين طعنات الجنس والطّعنات الحقيقيّة لانتقام ثأريّ لفعل الخيانة.
كما أنّنا نلحظ في قصصه نزوعاً واضحاً إلى استثمار التّناصّ الدّينيّ، وتحميله بدلالة جديدة تتناسب مع النّسيج السّرديّ الذي يتعالق معه، وهو ما يتجلّى في قوله: “وأرى في المنام أني أذبحك، وبخروج الدّم يخرج ألمي”؛ وذلك في موازاة حلم سيّدنا إبراهيم، وهو يقول لابنه: “ يا بنيّ إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك.” في رمزيّة الدّم للتّطهير، وكذلك نلحظ استثمار التّناصّ أيضاً في عبارة “لكنّك ستخذل قبل غياب الشّمس”؛ وهو ما يرشح من خلال تشريب نص من معنى نص سابق لما قاله السّيّد المسيح لبطرس: “ستنكرني قبل صياح الدّيك ثلاث مرّات”، ويهدف من خلال هذا الاتكاء إلى الاستفادة من الحاضنة الشّعبيّة والمزاج النّفسيّ الذي يرتاح لتلقّي النّصّ المقدَّس لذا وظف هذا التّناصّ بما يحقِّق انسجام القارئ وإحاطته بجوّ قريب من وجدانه وموروثه من ناحية، وفضلاً عن ذلك أراد أن يؤكّد احتمال الغدر؛ فالبشر خذلوا الأنبياء فما بالك بموقفهم من الآخرين.
كذلك في مجموعة قصص “غسق الآلهة” لا يغيب التناصّ وتمثّل الأسطورة في حكاية الملكة التي يأتيها فيل ذهبيّ من السماء ويدخل فيها لتنجب طفلًا يمشي عقب ولادته ويقول إنّه سيّد العالم معتبراً أنَّ هذا الوجود آخر تجلٍّ له، في تناصّ منزاح عن قصّة السيّد المسيح المعروفة «وتتابع كالي: تحت الشجرة الوارفة جلست ماريا الملكة القرفصاء بعد أن حجبها الخدم عن الأنظار بستار خاصّ، وما كادت تنهض حتّى كان تحتها طفل تلقّته أيدي أربعة من الملائكة في شبكة نسجت خيوطها من الذهب ووقف المولود فجأة وتقدّم سبع خطوات، ثمّ صاح بصوت عذب: أنا سيّد هذا العالم. وهذه الحياة آخر حياة لي.” في فتح النص على مفهوم آخر يغلق إمكانيات أخرى للحياة والتجسد مما يضع المتلقي في مواجهة واقعه لأنها آخر حياة له وفي قصّة “غبار الطلع” غبار أصفر وقاتل يحفّ بالمدينة التي تغتال مبدعيها بكاتم صوت عبر تكثيف حدث واقعيّ مثل مشهد اغتيال ناجي العلي حيث يبرز التناص في الإيماء لفعل الاغتيال وذكر لوحة تتضمن الجسد المسجى مع حامليه دون أن يصرح معتمدًا على التلميح للحادثة ليعبر منها إلى القضيّة العامّة وهي اغتيال بلد في الإحالة للحرب الأهليّة اللبنانيّة، غبار تتبدّى من خلاله ذاكرة الموت والدم في هذيان متقطّع لكائن تتشظّى ذاته المتهتّكة بفعل انكسار حلم وواقع جائر وعلاقات مهدّدة نشأت في واقع قاتم نسجت عبر التداعي الحرّ لأضغاث كوابيس تنبض بلاوعي كامن في أعماقه مثقل بالخيبة والهزيمة في زمان ومكان غائمين عبر حواريّات بين المرأة الحلم والرجل المتوهّج، وهما يخطوان بين الخراب لتكتمل أغنية الموت بانفجار يتساقطان بعده أشلاء. وفي قصّة “طائر الموت” تستمرّ ثنائيّة الحوار بين الرجل والمرأة، وهو يقصّ عليها أحزانه؛ موت الأمّ والصديق وعذاباته وكوابيسه ونبوءات الأعماق بنذر الموت التي تلاحقه هو الكائن الأعزل الذي يلتمس حناناً غامضاً. تستمرّ هذه الثنائيّة في قصّة “غسق الآلهة” والرجل الموزّع بين الأنثى الخارقة سليلة الحلم والأنثى الشرقيّة بنت المكان سليلة القهر والاضطهاد.
في أناقة اللغة وتألّقها عند صاحب “التموّجات” تنثال هطولات المعاني بزخم متتابع ومتصاعد في قدرة فائقة على التكثيف والترميز التي تعدّ من أهمّ ميزات القصّة القصيرة، حيث اللغة هي الحامل الإبداعيّ الذي يعتلي صهواته ليحلّق في فضاء الكلمة فارسًا في زمن الخنوع والخذلان، ليطرح السؤال الموقف: هل أنت مع الكلاب؟ أم مع الوعول الجريحة؟ تاركًا الجواب للتاريخ والضمير والوجدان.