عدنان حسين أحمد
تحتضن مكتبة “رامون” في مدينة فالنسيا الإسبانية معرضًا جديدًا للفنان التشكيلي سعد علي. يضم المعرض الذي انضوى تحت اسم “الأمل” 25 عملاً تخطيطيًا مؤطرًا إضافة إلى ثلاث لوحات منفّذة بالزيت. وعلى الرغم من طغيان التخطيط باللونين الأسود والأبيض إلاّ أن الموضوعات والثيمات الأساسية لم تتغير كثيرًا فما تزال ثنائية المرأة والرجل مهيمنة، ولا يزال الحب متقدًا في عيون شخصياته الغارقة في عوالمها الرومانسية المتفردة التي لا تتخلى عن الحيوانات والنباتات وعناصر الطبيعة التي تتمثل بالأشجار والأنهار والبحار الواسعة التي تتلقف مراكب العشاق والمتيّمين الذين يجدون ضالتهم العاطفية فوق سطح الغمر حيث تطوّقهم الزرقة من كل الجهات. لم يعد الفنان سعد علي أسير مشاريعه الفنية الكبرى مثل “صندوق الدنيا” و “أبواب الفرج والمحبة” التي اشتغل عليها طوال أربعة عقود أو يزيد خاصة أن تنقّل بين خمسة بلدان مهمة وهي العراق، وإيطاليا، وهولندا وفرنسا وإسبانيا التي استقر فيها ليواصل مشروعه الفني الذي يتصف بالتنوّع والغزارة والبراعة والتجديد. ولو انطلقنا، كمتابعين لمنجزه الإبداعي، من حديقة منزله وما يجاورها من منازل وحدائق وطبيعة مُشجرة لوجدناه يشتغل كل شيء تقريبًا ولا تفوته شجرة أو نبتة أو زهرة قرّرت ألا تتوارى بين الأغصان المتشابكة، وهذا الأمر ينسحب على الحيوانات الأليفة من قطط وكلاب وظباء وحيوانات أخرى هجينة يجترحها من ذاكرته البصرية المتوهجة ويقدّمها إلى متلقّيه العالمي الذي يعتقد أنه يستمتع باللوحة الفنية مهما كانت معقدة أو عصيّة على التأويل فهي أشبه بالقطعة الموسيقية التي يفهمها الإنسان القادم من جهات الكون الأربع، وإذا لم يفهمها كليًا فإنه يستسيغها أو يستمتع بها في أضعف الأحوال وهذا أبعد ما يطمح إليه الفنان سعد علي الذي تشرّب بثقافات متعددة، وأشبعَ ذاكرته البصرية بصور ومَشاهد كثيرة كافية لأن تغذّيه على مدى بضعة عقود قادمة. وحتى لو افترضنا أنّ ثنائية الرجل والمرأة أو العاشق والمعشوقة هما العمود الفقري للوحة سعد علي فإن التفاصيل التي تؤثث السطح التصويري للوحته هي من الروعة والإثارة والجمال بحيث تحفّز المتلقي على الغوص والإبحار في هذه المتاهات البصرية التي تطوق حكاية الحُب التي يتربص بها العُذال والمتلصصون من مُسترقي السمع والبصر والمستطرقين الذين قادتهم أقدامهم إلى فضاءات والحب والبهجة والسرور.
لا يميل سعد علي إلى الاستعانة بوسيط آخر غير الصورة لكنه في هذا المعرض أراد أن يكتب ما يشبه القصيدة النثرية أو الخاطرة التي لا تتعدى مسار البوح الصريح فثمة شي تعسّر على الفرشاة أن ترسمه فلاغرابة أن يستعين بالكتابة بوصفها رديفًا للصورة التشكيلية. ففي لوحة “الفيل والمرأة” التي أنجزها سنة 2011م يأخذ فيها الفيل بعض الصفات البشرية مثل اليدين والساقين وحتى العين الحانية التي نرى التماعها العاطفي الذي يغمر فيه وجه المرأة ولكي يحلّ هذه الإشكالية التي أوقع فيها المتلقي فأغراه بالنظر إلى ما كتبه إلى يمين اللوحة التخطيطية فقال الفنان الكاتب: “الفيل ذلك العملاق الرهيب / ذلك الوديع المواكب / لأرجل الطيور المسافرة / وزارع الأمل في مزرعة الوحدة / ذلك الفيل الذي أحببتهُ / ولم أرَه في حياتي طليقًا / سوى في مزرعة الإنسان / هذا الجبروت المقتنع ببصمات يده / يحدّثني عن حُب رغباته”. وثمة لوحة تخطيطية أخرى يأخذ فيها العاشق ملامح حيوانية هجينة وهو يحتضن محبوبته الأبدية بصراحة لا غُبار عليها ومع ذلك فإن الفنان سعد علي يحيلنا إلى جملة دبّجها إلى يمين الناظر يقول فيها: “خلود البشر . . . هو ما تخلّفه يداه على الأرض”. وهو يعني كل ما يخلّفه الإنسان من منجزات عملية لكنه يقدّم المنجز الفني ويمجده فهو العمل الوحيد الذي يجعل الحياة أخف وطأة مما هي عليه، كما أنه يمنحنا الراحة النفسية، والإحساس بالخلود عمّا تتركه أنامل الفنانين ومخيلتهم المتقدة أبدًا.
حاول سعد علي أن يتماهى مع طبيعة المكان وينسجم مع اشتراطات مكتبة رامون التي تنظم أنشطتها الثقافية والفنية وخاصة توقيع كتب الأدباء والفنانين والنقاد الذين يتم الاحتفاء بهم على مدار السنة فلاغرابة أن يكون القسم الأكبر من لوحات هذا المعرض تخطيطية وغالبيتها تصلح لأن تكون أغلفة للكتب الأدبية والفنية والنقدية. ومنْ يُدقق في تفاصيل هذه التخطيطات ويتمعن بتقنياتها سيجد أنها تعتمد على الخط الواحد الذي لا يكرره الفنان ولا يمرّ عليه ثانية وقد توصّل إلى هذه البراعة بعد أن تمرّن عليها زمنًا طويلاً وصار هذا الخط سلسًا ومنسابًا ولدنًا مثل لدانة أصابع شخصياته المرنة المتمعجة وكأنها خالية من العظام تمامًا. كما اكتفت هذه التخطيطات باللونين الأسود والأبيض وحققت كل ما يصبوا إليه الفنان من مقاربات فنية كانت راكسة في أعماق مخيلته التصويرية التي لا تجد حرجًا في البوح، وكشف المستور، والتصريح بالأشياء اللامُفكر فيها أو التي يركنها العقل الجمعي جانبًا. جدير ذكره أنّ هذا المعرض سوف يُفتتح من قبل مدير مؤسسة الكتاب في مدينة فالنسيا، وهي ثالث أكبر مدينة إسبانية، في يوم السبت المصادف 18-11-2023 ويستمر لغاية 15 – 2- 2024م ومن أبرز لوحات هذا المعرض هي “الفاكهة”، و “العاشقة”، و “فردوس المدينة”، و “موسم قطف التين”، و “الأمل”، و “باب الفرج”.