تنميط السرديات الأميركيَّة

ثقافة 2023/11/15
...

محمد جبير

لم يكن التاسع من نيسان 2003 حدثًا سياسيًا أدّى إلى إزاحة نظام دكتاتوري، والإتيان بنظام بديل بدعم ورعاية دولية، وترحيب معارضة عراقية عاشت حياتها النضالية خارج البلاد، وتمكّنت من إيجاد الدعم الدولي للإطاحة بالنظام القائم آنذاك، هذه العملية في حدّ ذاتها، لم تكن متغيّرًا سياسيًا فقط، كما يتصوّر بعضهم، بل هو تغيير شامل في مجمل الحياة للإنسان العراقي، وتغيير نظرته للواقع، وتغيير قناعاته ورؤاه وتصوّراته للحاضر والمستقبل، ومراجعة تفكيره في الحقب الماضية من تأريخه العربي والإسلامي، بمعنى آخر، فإنّ هذا المتغير خلخل كلّ المفاهيم القيمية والعقائدية التي كانت سائدة قبل ذلك التاريخ، والتي أنتجت فريقًا مطمئنًّا ومتجانسًا مع طروحات النظام، وفريقا معارضا وقلقا غير مطمئنّ مع تلك الطروحات التي كانت تقدم وفق توجيهات وتعليمات ترسم على ضوئها مؤسّسات الدولة آنذاك سياستها في التعامل مع المواطن.
اختلّت الصورة بعد التاسع من نيسان، ليس على مستوى الفرد العادي وحده، بل على مستوى الفرد المبدع الذي يمارس الكتابة الإبداعية، فقد اتّسع البون الشاسع بين من كان يصف فعل التغيير بأنّه تحرير، والطرف الآخر الذي يصفه بالاحتلال وفق توصيف الأمم المتّحدة آنذاك. توسّعت الهوّة، واتّسعت لتنتقل من الاختلاف الاصطلاحي إلى الفعل الاختلافي المضادّ الذي يدعو إلى تصفية الآخر من كلا الطرفين، أو لنقل إلى شطب الآخر من فضاء الإبداع وعزله واتّهامه بأوصاف شتّى، هذه الإشكالية المركزية في نهاية الأمر أنتجت سرديات خاصّة تحمل خطابها الخاصّ، وهي كأنّها محاولة لإثبات الذات وتجاوز الآخر.
ذلك كلّه كان ناتجاً طبيعيًا لفضاء التغيير، وكسر حاجز الخوف من بطش النظام السياسي، وإطلاق فضاء الحرية للفرد في التعبير، ممّا شكّل حالة جديدة لم يعتد المواطن العراقي على التكيّف معها واستثمارها في شكل إيجابي، وإنتاج سرديات عالية المستوى تنطلق من هذا الفضاء الجديد، الذي يسمح في ولادتها بشكل طبيعي من خلال روح الجدل في إنتاج تلك النصوص، لكن ما نتج عن ذلك، في حقيقة الأمر، هو سرديات فوضى لا غير، وهذه السرديات يمكن لنا تأشيرها بإطارات محدّدة بمراجعة تلك النصوص التي صدرت في العقد الأول ونصف العقد الثاني من هذا القرن.
لكن على الرغم من الاختلاف الفكري بين الفريقين على المصطلح وتحديداته بين معارض ومساير، فإن النتاج السردي العراقي في هذه المرحلة بقي محتفظًا في توجّهاته الثقافية العامّة، كأنّ حدث التغيير السياسي هو حدث خارج النصّ، وليس في جوهر البنية المجتمعية للإنسان العراقي، فقد كانت تلك النصوص تسير في نمطية باتجاه واحد التقى فيه الفريقان، هو اتجاه الإدانة، فقد ركّزت النصوص التي كُتِبت ونُشِرت، لا سيما في العشرية الأولى من هذه المرحلة وبشكل مكثّف، على نصوص الإدانة لمرحلة ما قبل التاسع من نيسان وما بعده.
إلّا أنّ هناك قلة من بين هؤلاء الكتاب خرجوا عن هذا التنميط السردي في كتابة النصّ الروائي، وذلك بعبور الكتابة من مرحلة ما قبل إلى مرحلة الما بعد، كأنّه يريد أن يؤكّد خطابًا سرديًا، مفاده أنّ الما بعد هو ناتج طبيعي للما قبل، وذلك ما نلمسه بصورة واضحة في رواية علي غدير “سفاستيكا”، و”الدولفين” لعدنان منشد، بينما ذهبت روايات لكُتّاب شباب، ومن جيل الما قبل، لإدانة هذا الواقع الجديد، أو بصورة أدقّ ما نتج عنه من حوادث عنف طائفي أو مجتمعي، وهي سرديات اتّسمت ببنية سوداوية، والأمثلة على ذلك كثيرة، حتى تكاد تكون هي الغالب الأعم في التجربة العراقية السردية، إذ كتب في هذا النمط “ناطق خلوصي، أمجد توفيق، لطفية الدليمي، رغد السهيل، ميسلون هادي، برهان شاوي، عبد الزهرة علي، عبد الستار البيضاني، على لفتة سعيد، حميد الربيعي، ضياء الخالدي، علي الحديثي، وارد بدر السالم، عباس لطيف، علاء شاكر، باسم القطراني، عزيز الشعباني، وآخرون”.
وذهبت سرديات الما قبل إلى تكثيف جرائم النظام السابق المجتمعية أو الفكرية، مثلما فعل ذلك تحسين كرمياني في “ليالي المنسية” أو محسن الرملي في “حدائق الريس”، أو محمد غازي الأخرس في “القماصل الرئاسية”، بينما استثنت كتابات قلّة من الشباب نفسها في الكتابات السردية خارج نمطية كتابات الإدانة، لكن هذه الكتابات القليلة التي انفرد بها الكُتّاب الشباب، استقطبت وحفّزت الكثير من الكُتّاب الجادّين في إنتاج سرديات عراقية، إلى دعم هذا الاتّجاه في نتاجات جادّة ومتميزة تؤكّد الصورة الحقيقية للمنجز السردي العراقي، سواء تلك الأعمال التي انطلقت من الحاضر إلى التاريخ المضيء، أو بالعكس، أو تلك الروايات التي انطلقت من صورة الواقع إلى الواقع المتخيّل سرديًا وأجادت في ذلك، فقد كانت تجارب أرخنة النصّ السردي، لا سيّما تلك الأعمال التي صدرت في أوقات متقاربة من السنوات القليلة الماضية لكُتّاب أكّدوا حرفيتهم في الكتابة السردية، تلك الحرفية القادرة على الإمساك بالمتلقّي لمتابعة التفاصيل البعيدة في الزمن الماضي، وبثّ عناصر التنويع والتشويق في المتن الحكائي السردي، فكانت تلك الكتابات إضاءة مشرقة في السردية العراقية للخروج من البنية النمطية إلى بنيات أكثر انفتاحا في السرد، فقد كانت إسهامة فيصل عبد الحسن في الرحلة العجائبية، وجابر خليفة جابر في نور خضر خان، ونزار عبد الستار في الأدميرال لا يحب الشاي، وكليزار أنور في السقائف الزرق، ومحمد خضير سلطان في شبح نصفي، والعابد في مرويته الأخيرة، هذا على حدّ علمي، وقد تكون هناك كتابات أخرى، بينما كان الشقّ الثاني من هذه الإشراقة في الكتابة عن الواقع المتخيّل، بعيدًا عن سوداوية الواقع المعيش، والذي تجسّد في أعمال وحيد غانم لا سيّما في روايته “الحلو الهارب إلى مصيره”، وحسن فالح في “شوبان الصدرية”، ونبيل جميل في “رسائل رطبة”، وعلي لفتة سعيد في “باب الدروازة”، وعلاء مشذوب في “حمام اليهودي”، وأعمال أخرى لكُتّاب آخرين.