صمت المبدع.. استراحةَ محارب أم قطيعة نهائيَّة؟

ثقافة 2023/11/15
...

باقر صاحب

لا يزال الجدل مستمراً في الصحافة الثقافية العربية بشأن صمت الكتاب والمبدعين عن الكتابة، قد يكون صمتاً مؤقتاً أو دائمياً، حيث يجري ذكرُ أنّ غالبية الكتاب والمبدعين يمرون بحالة الصمت، بعضهم سمّوا تلك الحالة بـ” متلازمة الورقة البيضاء” أو “سدة الكتابة”، فضلاً عن مسمّيات الجفاف أو النضوب أو التوقّف أو الانطفاء، أو الاعتزال والقطيعة النهائية، أو ربّما يصحُّ أن نقول عنها؛ استراحة محارب.
بدءاً نتساءل؛ هل يعدُّ مرور المبدع أو الكاتب بحالة جدبٍ أو نضوبٍ، حالةً سلبيةٌ يُعاب عليها صاحب الشأن، والجواب الذي تحصّلناه من خلال اطّلاعنا على حالات غالبية الذين مروا بها، أنه قد يكون حالةً إيجابية، توفّر مساحةً لتأمل المبدع لمنجزه السابق، أو أنه قد يكون قاتلاً إذا استمر التوقف طويلاً من دون إرادة المبدع في ذلك،  قد تصبح العودة بعده إلى الكتابة، ليس بالشيء الهيّن، يرافق ذلك قلقٌ ممضٌّ، من خشية الكاتب من عدم قدرته على تقديمه أفضل مما كتبه قبل التوقف، حينذاك يصبح السكوت الدائم هو الحال الأفضل من تقديم مستوىً هزيل، أو بحكم أن يصبح المبدع طاعناً في السن تتناهبه الأمراض، أو إحساسه بالشيخوخة المبكرة. ومثالٌ على ذلك القاص والروائي المصري الراحل يحيى حقي (1905 - 1992)، الذي يُعرف عنه بأنه توقّف عن الكتابة القصصية عام    1961 وعمره كان 56 عاماً، وأمضى بقية عمره في كتابة المقالات، وعند سؤاله عن ذلك أجاب بما معناه أن الكتابة القصصية تجهده، فتوجه إلى الكتابة المقالية، وهذا يعني أن ضريبة الإبداع باهظة الثمن على المبدع، بالشكل الذي يعني أن الأنواع الكتابية الأخرى، كالمقالة في حالة  يحيى حقي أيسر من المواظبة الإبداعية .
 هناك من يرى من الضرورة تحديد وجهة نظرنا للإبداع، هل يتطلّب المران اليومي، كما الرياضي الذي يمارس هذا النوع من المران، كيلا يفقد لياقته البدنية، وفي حالة المبدع تتيسر له ولادة الوهج الإبداعي الفاتح لكتابة نصٍ جديد، أو البعض ينظرون للإبداع بأنه إلهامٌ، لا يعرفون متى يبرق ويرعد، وهنا نريد التوصل إلى أنه لكي نبعد عنا شبح التوقف الطويل عن الكتابة، ينبغي ممارسة المران الدائم، وهذا هو ديدن المبدع المحترف بدلاً من أن ننتظر وحي الإلهام، ونبقى متسمرين على مصاطب الهواة.
وضمن سياق حالات التوقف لفترة طويلة نسبياً، تُذكر حالة الشاعر المصري الراحل أمل دنقل ( 1940 - 1983 )، إذ إن توقفه عن كتابة الشعر ثلاث سنواتٍ دفعه إلى التفكير بالانتحار، ويُذكر أيضاً أنه عندما نجح في كتابة الشعر بعد هذا الانقطاع ألغى من باله فكرة الانتحار.
وكذلك يُضربُ مثالٌ عن التوقف عن الكتابة، الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ (1911 - 2006) وكان أمده خمس سنوات بعد ثورة تموز 1952. وقد عزا محفوظ سبب الانقطاع  إلى أن الثورة : “قد حققت حينها ما كان يصبو إليه في أعماله الأدبية”، لكن البعض يعزونه إلى حرص محفوظ على صنع أشكال روائية جديدة، تختلف عما كتبه قبل الثورة.
وباستطاعتنا القول، إنه مهما كانت حالة القطيعة، سواء كانت لها نهايةٌ أو بقيت دائمية، فإن القلق يظل رفيقاً لجميع حالات المبدع، قبل كتابة نص، أو الانتهاء من كتابٍ جديد، وفي أثناء الكتابة وما بعدها، حين يأخذ ما أنجز طريقه للنشر، ولكن الخوف من التوقف الدائم عن الكتابة هو القلق الأكبر، إنه الموت المعنوي للمبدع، وهو ما يجعلنا نستعيد قول الكاتب الأميركي تنسي وليامز (1911 - 1983): “إنّ كلّ فنانٍ يموت ميتتين، ليس موته هو مخلوقاً مادياً فقط، وإنما موت طاقته الخلاّقة أيضاً، فهي تموت معه”.
يمكن القول أيضاً، ضمن تداعيات هذه الموضوعة، إن هناك فارقاً كبيراً بين أن يكون هجر المبدع للكتابة متعمداً أو عفوياً، ففي الحالة الأولى، يكون المبدع قد استقل قطار اللاعودة إلى الكتابة، مفتوح الخيارات إلى اتخاذ مسارٍ آخر، مثل التحول إلى مهنةٍ جديدة. على سبيل المثال الشاعر الفرنسي الشهير رامبو( 1854 - 1891 )، الذي ترك كتابة الشعر وامتهن التجارة، أو قد يكون سبب الهجر المُتعمّد الشعور باللاجدوى من الكتابة، لقلة القرّاء وضآلة المبيعات، والتعامل التجاري لدور النشر مع الكتّاب، أو إنه يدفع ثمن ما تطبع له دور النشر.
عدوى اللاجدوى منتشرة بين غالبية الكتاب، ولا نقول جميعهم، ولذا يتخذ بعضهم الهجر النهائي، وآخرون يراوغون هذه اللاجدوى، بقطيعةٍ مؤقتةٍ مع الكتابة والنشر، وهنا يتجلى معنى القطيعة العفوية، غير المسبوقة بقرارِ صارمٍ بهجر الكتابة نهائياً، هي قطيعةٌ لأجل الخروج بتجربةٍ إبداعيةٍ مغايرةٍ للمألوف، وكتابٍ جديدٍ يلقى رواجاً أو يفوز بجائزة، طالما أصبح الفوز بها المعيار الرئيس للقراء بشأن جودة الكاتب وتميز صنعته الإبداعية. كما يمكن الانتصار على حالة استعصاء الكتابة، بالقراءة المركّزة لأهم التجارب الإبداعية قديماً وحديثاَ، فالقراءة وقود الكتابة. كما أن الاندفاع، لمعايشة الناس بهمومهم وأفراحهم، وتدوين تلك المعايشة على شكل يومياتٍ، نواة مدهشةً لأفكارٍ جديدة، فضلاً عن السفر، ورؤية عوالم جديدة، يمكن أن يكونا أفضل مغذٍّ لتدوين تجارب إبداعية مغايرةٍ للمنجز السابق للمبدع، محققةً بصمة جديدة في راهن المشهد الأدبي في بلاده.