فنُّ المواساة

ثقافة 2023/11/15
...

  مايكل إغناتيف
  ترجمة: عبود الجابري

 «لقد تعلمت أن الناس سوف ينسون ما قلته، و ينسون ما فعلته، لكنهم لن ينسوا أبدا كيف جعلتهم يشعرون» . مايا أنجيلو
يعتقد العديد منا أن المواساة هي كلمة يلقيها شخص في سمع شخصٍ آخر للتخفيف من حزنه، كلمة تلقى على عواهنها، دون أن ندرك أن المواساة الناقصة حزن مضاف إلى ما يشعرُ به من أردنا مواساته.. هذه وجهة نظر أعددتها و عززتها من خلال ترجمة الاقتباسات بتصرّف من كتاب “ يد تمتد في الظلام” لمؤلفه البروفيسور “مايكل إغناتيف»، الرئيس الفخري لجامعة أوروبا الوسطى في فيينا، فما أحوج الكثير منا إلى مواساة صادقة من أناس يصدقون القول والفعل.
- مشهدٌ أول:
قمتُ بزيارة صديقٍ فقد زوجته منذ ستة أشهر، كان منكسراً، لكنَّه كثير الحراك بلا هوادة. الكرسيُّ الذي كانت تجلس فيه زوجته لا يزال في مكانه القديم، والغرفة تحتفظ بما كانت عليه من ترتيب قبل رحيلها.
- مشهدٌ ثانٍ:
أحضرتُ له كعكةً من مقهىً اعتادا زيارته معًا عندما كانا يتغازلان، تناول شريحةً وأكلها بشراهة، عندما سألته كيف تسير الأمور، مضى إلى النافذة وأطلق نظره في الأفق، وقال بهدوء،” لو كان بإمكاني أن أصدّق أنني سأراها ثانيةً».
لم أجد ما أقوله، جلسنا طويلاً وكان الصمت سيد الموقف، جئت لمواساته، أو على الأقل كي أجعله يشعر بالراحة، لكني لم استطع أن أفعل ذلك، لفهم المواساة، من الضروري أن نبدأ باللحظات التي تكون فيها المواساة مستحيلة.
أي للعثور على المواساة، علينا أن نجد في دواخلنا حزن من نواسي، ونتخيل ما يمكن أن يخفف عنّا، المواساة هي ما نفعله أو ما نحاول القيام به، المعاناة التي تسعى للتشارك فيها، وكيفية استعادة اليقين بأنّ الحياة تستحق أن تُعاش.
لكنّي هنا، في هذه اللحظة مع صديقي القديم، عرفتُ مدى صعوبة ذلك. إنّه حقّاً موقف يعطّل فاعلية المواساة، فصديقي يرفض تماماً تصديق فكرة العيش بدون حبيبته. لذلك فإن محاولة مواساته تأخذنا إلى حدود اللغة، وهكذا تسير الكلمات في صمت، لأنَّ حزنه هو عزلة عميقةٌ لا يمكن مشاركتها كما هي في أعماقه، لا مكان للأمل على الإطلاق.
تكشفُ هذه اللحظة أيضًا ما يعنيه العيش عند الحلول في الجنة كيقين لاهوتي، فقد اعتقد الناس لآلاف السنين، أنهم سيرون أحباءهم مرة أخرى في الحياة الآخرة. لقد تخيلوا ذلك بوضوح ، وصوَّره الفنانون العظماء: السحب ، الملائكة ، القيثارات السماويَّة ، الوفرة التي لا تنتهي ، التحرر من الكدح والمرض ، ولكن قبل كل شيء يأتي الشمل الذي سيلتئم من جديد ، هذه المرة إلى الأبد ، مع الحبيب.
كانت الجنة هي الشكل الذي قام بتعزيز الأمل منذ آلاف السنين ، لكن ما قاله “شكسبير” عن الموت ينطبق كذلك على الجنة: “إنها البلد الذي لا يعود منه مسافر».
بحلول القرن السادس عشر، بدأ الأوروبيون في الشك في عدم وجود بلدٍ كهذه على الإطلاق( وأعني الجنّة)، في القرن الحادي والعشرين، أصبح عدم الإيمان هو السائد في قلوب وعقول العديد من الأشخاص ممن أعرفهم، ما أطلق العنان للإلحاد ، وهو أمر تخيلت قسوته لو أنّ هذا الشك تسلّل إلى تفكير صديقي، وأضاع أمله بلقاء من يحب في الجنّة، حينها سيشعر كما لوانّه خان نفسه بإيمانه القديم.

يدٌ من الماضي
كانت المواساة من بينِ مباحث للفلسفة، لأن الفلسفة كانت تُفهم على أنها النظام الذي علَّمنا كيف نعيش ونموت. كان «كونسولاتي» علماً في حد ذاته في التقاليد الرواقية للعالم القديم، وكتب «سينيكا» ثلاث رسائل مشهورة لمواساة الأرامل الحزينات، بينما سعى «ماركوس أوريليوس»، الإمبراطور الروماني لكتابة تأملاته بشكل أساسي لتعزية نفسه.
كما كتب عضو مجلس الشيوخ الروماني بوثيوس “رثاء الفلسفة” أثناء انتظار حكم الإعدام على يد ملك بربري في عام 524، وما زالت هذه النصوص قائمة في دراسات العلوم الإنسانية للطلاب الجامعيين، لكن الفلسفة المهنية تجاهلتها.
كما فقدت المواساة وضعها المؤسسي، الذي كانت تمارسه الكنائس والمعابد اليهودية والمساجد، حيث كنا نواسي بعضنا البعض في طقوس جماعية من الحزن والحداد، فلم يعد هناك طقوس من هذا النوع، فصار علينا عند الحاجة إلى مساعدة في أوقات البؤس، أن نطلبها بمفردنا، من بعضنا البعض، ومن المتخصصين في العلاج، هؤلاء الذين يعاملون معاناتنا على أنها مرض نحتاج إلى التعافي منه.
ومع ذلك ، عندما تُفهم المعاناة على أنها مرض له علاج ، يضيع شيء ما، لأنَّ تقاليد العزاء القديمة استطاعت أن تضع المعاناة الفردية في إطار أوسع وأن تقدم للشخص الحزين وصفًا للمكان الذي تتناسب فيه حياة الفرد مع خطة إلهية أو كونية.
تظل مثل هذه الأطر متاحةً لنا حتى الآن: الله اليهودي الذي يطلب الطاعة ولكن عهده مع شعبه يعِدُ بأنه سيحمينا ؛ الإله المسيحي الذي أحبَّ العالم لدرجة أنه ضحّى بابنه وأعطانا رجاءَ الحياة الأبدية ؛ والله الذي فرض على المسلمين الطاعة كطريق سالك إلى الحياة الفضلى، مثلما هي تمهيد للعبور إلى الجنّة، الرواقيون الرومان الكلاسيكيون الذين وعدوا بأنّ الحياة ستكون أقل أذىً لو تعلمنا كيفية نبذ الرغبات البشرية.
قد نفترض أن النصوص الدينية مغلقة أمامنا إذا لم نشارك الآخرين الإيمان الذي ألهمتنا إياه هذه النصوص، لكن لماذا يُطلب منا اجتياز اختبار الإيمان قبل أن نتمكن من استخلاص العزاء من النصوص الدينية؟
قد يكون الوعد بالخلاص والفداء مغلقًا أمامنا، لكن ليس العزاء الذي يأتي من الفهم الذي يمكن أن تقدمه النصوص الدينية في لحظات اليأس. المزامير هي من بين الوثائق الأكثر بلاغة في أي لغة من حيث الشعور بالحرمان والوحدة والضياع. إنها تحتوي على أوصاف لا تُنسى لليأس بالإضافة إلى رؤى سامية للأمل. لا يزال بإمكاننا الاستجابة لوعدها بالأمل لأن المزامير تعترف بما نحتاج إليه من الأمل.
الأكثر تأثيراً اليوم هو التقليد الذي يتشكل في أعمال “مونتين وهيوم”، اللذيْن تساءلا عما إذا كان بإمكاننا تمييز أي معنى كبير لمعاناتنا، وأعطى كلٌّ منهما صوتًا لاعتقاد شغوف بأنَّ الإيمان الديني قد فاته أهم مصدر للمواساة على الإطلاق. لم يكن معنى الحياة موجودًا في الوعد بالجنة، ولا في السيطرة على الشهوات، بل في العيش كل يوم بالكامل. أن تكون المواساة، ببساطة، هي التمسك بحبِّ المرء للحياة كما هو، هنا والآن.
ما زلنا قادرين على سماع هذه الأصوات من الماضي بفضل سلاسل المعنى التي تم الحفاظ عليها على مدى آلاف السنين. بعد ثمانمائة عام من رثاء “بوثيوس” لنفسه، من خلال تخيل سيدة حكيمة زارته في السجن، قرأ “دانتي”، في المنفى من موطنه فلورنسا، مرثاة بوثيوس، وألهمه ذلك أن يتخيل رحلة، بصحبة سيدة حكيمة كذلك، من الجحيم عبر المطهر إلى الجنة. بعد ستمائة عام أخرى، في صيف عام 1944 كان هناك كيميائي إيطالي شاب مع زميل له في السجن، تذكر وزميله الإيطالي كذلك فجأة سطور دانتي هذه: “نحن لم نولد لنكون متوحشين. نحن رجال خلقنا من أجل المعرفة والفضيلة « .