تساؤلات عما يغيب من صورته الفوتوغرافية

ثقافة 2023/11/16
...

 استطلاع: صلاح حسن السيلاوي 

هل تحتفظ الذاكرة العراقيَّة الجمعيَّة، بملمحِ صورة المثقف الفوتوغرافية، كيف تمرُّ وبأي لون في خيال التذكر؟ إن كانت تلك الصورة موجودة فما أثرُ ملامح أهلها، وأين يتركز ذلك الأثر؟ من المعني بنشر تلك الصورة، ومن المشغول بمشاهدتها؟ وماذا عن وسائل الإعلام؟ هل سقطت في فخ الشهرة الجديدة، شهرة التواصل المشروط بغرابة الظهور وديمومته وسطحيته؟ هل ستلتهم السطحية التواصلية والإعلامية الحضور المفترض لهذه الصورة، أليس من الصحيح أن نعترف بأن حضور صور صناع التفاهة، دليل على غزو مفاهيم السطحية للحياة، وإزاحة مفاهيم المعرفة عن هامشها المعتاد، إلى هامش أكثر بعدا، للدرجة التي أصبح معها، لا يرى، ولا يملك أثراً في الحياة.

ألا ترمز صورة المثقف، إلى كثير من الرمزيات التي يراد لها أن تغيب، رمزيات الفكرة العميقة، والحلم بحياة جديدة، والتمرد على الضار من المفاهيم والأخلاقيات والنظم، هل يمكن القول بأن صورة المثقف الغائبة، هي صورة للحياة التي تريدها الخلاصة من المجتمعات، الخلاصة التي تطغى على وجودها، شوائبُ السلطات ومفاهيمِها عن القطيع ومساراتها المعتادة.

 كأنها تلك الصورة، التي تنبئ عن اختلافٍ لا يطيب للرعاة الذين ينشغلون بالترويض، فهل من سبيل إلى حضورها؟ 

المثقف العراقي؟ ذلك الذي سار في طرقات الحياة المزدحمة، بصور الحروب والعنف المتكرر، ملتقطاً أنفاسَ المعرفة، ليشهقَ عافيةً ينشرها من شرفات بصيرته، على مدن البلاد الحزينة، أتحتفظ الأزقة العراقية له بصورة واحدة؟ بعد أن مشى بمعدة فقيرة، ورأس ثري عقودا من الخراب حالما بالأمل، وصفع الجوعَ بأرغفة الكتب، هل تلتفت له أغلفةُ المجلات، والصفحاتُ الأولى في الجرائد اليومية؟ بعد أن ملأ قاعات الجامعات وقاماتها وكتبها بأفكار وأحلام وأجنحةً مرفرفةً، في آفاق الوعي، أتحمل جدرانها ملمحاً فوتوغرافيا واحداً له؟ بعد أن بنى مؤسسات ثقافية، بسواعد منجزاته، هل تحتفظ له بصورٍ تناسب إبداعه؟ على ضوء ذلك نتساءل: ما رأيك بالصورة الفوتوغرافية للمثقف العراقي في وسائل الإعلام المقروءة، ومؤسسات الدولة والثقافة ومدن البلاد وشوارعها؟ لماذا تُهملُ صورته، في الوقت الذي يتم الاهتمام بمثيلاتها، لرجال السياسة والتلفزيون؟ أيمكن أن يشير ذلك إلى إيمان بعدم تأثير المثقف في المجتمع، وإيمانٍ ضمني بغيابه؟  


صورة منفّرة عن المثقف 

الروائي كاظم حسوني، أشار في إجابته إلى غياب صورة المثقف الفوتوغرافية، وإهمال تأثيرها، لافتا إلى أهمية انتباه وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافيّة والفنيّة، والجامعات لرمزية تلك الصورة والرسالة التي تحملها، فصورة المثقف، لا تعني صورة الشخص بمقدار ما تعنيه من محمولات معرفيَّة تدعو من يراها ضمنا، إلى التوجه نحو مضامين المعرفة والإبداع بشكل عام . 

ولفت حسوني، إلى ما يمثله تغييب تلك الصورة من تراجع لقيم الثقافة والمثقف، للدرجة التي قد يبدو معها المثقف نشازا على المجتمع الذي اعتاد نسقية القطيع، وتنمر على تجديد النخب وتفردهم .

وعدَّ حسوني تراجعَ حضور تلك الصورة، في الصحف والمجلات والمؤسسات الثقافيَّة والفنيّة والجامعات، إشارة واضحة إلى غياب قيمة المثقف ومنجزه في المجتمع عموما، بوصفه حالة تثير كثيرا من الشكوك حولها، لدرجة إتهامها بالكفر والمروق على مواضعات المجتمع ومقدساته.

والأنكى من كل ذلك – حسب حسوني-  أنّ هذه الصورة المنفّرة  عن المثقف في الأوساط والمؤسسات الثقافية ذاتها، تنسحب بأشكال أخرى إلا إنها بذات التوجه والانغلاق !!  . 

وقال أيضا: من هنا نجد غياب الصورة الفوتوغرافية للمثقف ومنجزة، وغياب أعلام الثقافة وأساطينها عموما في مجال الصورة  وكل مظاهر الاحتفال بالرموز ونتاجاتهم. كما يتم الاحتفاء بالفنانين والمطربين والفنانات، حتى من ذوي المواهب المتواضعة والخادشة للذوق العام. لتتجلى لنا بوضوح حالة المثقف العراقي وعدم فاعليته وحضوره في الحياة. كونه يعد في نظر الغالبية من الشخصيات غير المحببة والحالمة والشاذة او المخربة في المجتمع.


حريق يلتهم متحفاً  

فتح الشاعر علي فرحان، بإجابته نوافذ متعددة بأصابع أسئلته الحزينة، وهو يمر على الموضوع بوجع، فقد أثارت التساؤلات عن الصورة الفوتوغرافية، للمبدع العراقي، ألما بين سطوره، حيث تحدث عن انحسارها الذي يدل على تذويب متعمد لشخصية المتفرد في المجتمع، وتضييع دائم لشخصية العارف والمفكر، وحضور صور المتسلطين وحاشيتهم.

تحدث فرحان، عن غياب هذه الصورة، أو انكسارها، لصالح صور الطواغيت والمتكئين على سطحية الحياة ، والساعين إلى تغييب صناعها الحقيقيين، فها هو يقول: كأن المثقف العراقي منشور سري، فهو الأرق بعينه، لماكنة إعلامية معينة، اعتادت أن تعتاش على صور الطواغيت وملمعي أحذيتهم، هذه الماكنة صنيعة الصداع المزمن الذي تصنعه طرقعة «البساطيل» أو «سبحة» القاتلين الجدد. 

أتذكر مزحة سوداء في تسعينيات القرن المنصرم لصديقي الشاعر إبراهيم البهرزي، حيث يقول «زوجتي لا تصدق إنني شاعرٌ، لأنني لا أظهر بالتلفزيون». 

وأضاف فرحان، مبيناً رأيه بالإعلام بقوله: الإعلام في هذا العصر، يعمل بعقلية إرضائية، فهو محكوم كما كان بسلطة ولن يستطيع أن يتحرر منها، ولا يستبدل أساليبه، إنه فقط يتماهى مع الألوان الجديدة ويخضع لها ليفوز برغيف عياله، واصطفافه مع هذه الجهة أو تلك لا يعدو أن يكون محاولة بائسة لينعم بزيت الرضا. 

فَلَو نظرنا لبعض الدوريات التي تحتفي بصورة المثقف العراقي لتساءلنا: كم ستصمد أمام تغول السطحية التي حولها، وهي نماذج لا تعدو أن تكون محاولات لأفراد ينتمون لفصيلة مهددة بالانقراض، أو بالتغييب القسري لأرواحهم وأصابعهم. 

صورة المثقف، تستطيع ماكنة الإعلام أن تجتزها، لتضع بدلا عنها إعلاناً عن فقدان هوية، تماماً وقد تكون المقاربة مبكية أن نستعيض عن صورة السياب العظيم، بإعلان عن فقدان هوية، أو صورة حريق يلتهم متحفاً، أو سينما نغير جنسها في دائرة «الطابو» إلى مخزن للألعاب النارية.


تساؤل ضمني 

الشاعر كفاح وتوت، لفت إلى ضرورة الانتباه إلى أهمية الشيوع الثقافي، للمرحلة الزمنية التي نعيشها، مشيرا إلى أن ثقافة التواصل هي الحاكمة في عصرنا، وهي التي تعصف بالحياة، وتعمل على إحداث هزات عنيفة في داخلها ، مبينا أن التساؤل عن صورة المثقف الفوتوغرافية، هو تساؤل ضمني عن ذلك الشيوع، وتلك الثورة التواصلية، التي أخذت بتقريب المجتمعات إلى حد انصهارها ببعض في حدود معينة. 

ورأى وتوت، أن حضور المثقف يحتاج إلى إعادة التفكير من قبل الدولة ومؤسساتها، بشكل جدي وممنهج، لصناعة أولويات الثقافة وتسييرها، ضمن متبنيات المرحلة الزمنية التي تعيشها المجتمعات، وليس الإصرار على فاعلية بعيدة عن متبنيات العصر، ولكن لا يعني ذلك - حسب وتوت - تضييعا للقيم الإنسانية، ولا ابتعادا للمعارف والثقافات المهمة، بل على العكس، يجب على الدولة ومؤسساتها أن تعي خطورة تهشم صورة المثقف في المجتمع، لأننا ببساطة عندما نتمكن من تعريف المجتمع بثقافات وإبداعات إنسانيّة عالية ينشغل بها، سنطمئن عليه من الوقوع بفخاخ التطرف والتجهيل والعنف والحروب والنزعات القوميَّة والعرقيَّة.

ببساطة، ومن خلال الرجوع إلى التاريخ القريب، قبل البعيد، يمكن أن نكتشف أن الحروب اندلعت بسبب قيم ثقافيّة بالية، أو جهل بمعرفة قيم الجمال والحب والإنسانية. 

وأضاف بقوله: لابد من دعم رمزيّة المثقف في المجتمع، وهذا برأيي يقع على عاتق النخب المثقفة، على كل المستويات، قد لا تظهر على المجتمع، هنا أو هناك علامات اهتمامه بالمثقف، ولكنه عندما يخرج من الفوضى، سيكتشف أهمية المعنى، الذي يشتغل عليه، ومن أجله، وفيه، المثقف، ذلك المعنى الذي يثبت صورته الفوتغرافية في خيال المجتمع، صورة ترمز إلى وجود المعرفة والإبداع وأهميته، في صناعة الحياة ودعم وجودها.    

هيثم الشويلي


اختلاف السياسيّ والمثقف 

الروائي هيثم الشويلي، ذهب برأيه إلى تأثير اختلاف السياسي والمثقف على حضور تلك الصورة وأثرها في المجتمع، وأن الإعلام يلعب دورا في تغييب المثقف عبر بحثه عن مواطن الشهرة والجذب وليس السعي وراء صناعة رسالة معرفية ثقافيَّة.

فهو يرى أن تسيد الساسة على مشهد الحياة، وعدم توافقهم مع المثقف، يفضي إلى ضبابية في إعطاء المبدع حقه في التعبير عن أفكاره وما يطمح إليه. مشيرا إلى أنّ الإعلام، يمارس دورا مماثلا في تغييب المثقف، وهذا يعود بالدرجة الأساس إلى التركيبة المجتمعية في البلاد، لذلك تبحث أغلب المجلات عن وجه يجذب القارئ.

وأضاف الشويلي بقوله: كي أكون منصفاً لهذا المجتمع، الذي بات يقترب من السطحية لو أجرينا استطلاعاً بين مجلتين، إحداهما لدراسات ثقافية، والأخرى مجلة بسيطة ووضعنا على غلاف الأولى صورة للسياب أو الجواهري، والأخرى فنانة بسيطة، أجزم بأن الكثير من الناس سيقتني الثانية ويترك الأولى، وهذا يعطي انطباعاً واضحاً عن سطحية القارئ نفسه، هذه السطحية ساعدت الإعلام والساسة، على تهميش دور المثقف العراقي في كل المواضع، على الجداريات وفوق الأغلفة حتى في الجوائز الصادرة من مجموعات وهمية، صارت تحتذي بهذه السطحية، وتبتعد عن المكون الحقيقي للوجه العراقي المثقف.


نظام علاماتي

الشاعر عبد الهادي المظفر، قال: عندما نتكلم عن صورة ما، يجب علينا أن ندرك المعنى الخفي لتلك الصورة، وهذا ما يطلق عليه بالعلاماتية، والعلاماتية هي ما يتخصص بها السيميائيون أو المهتمون بعلم السيميولوجيا (دراسة المعنى الخفي لكل نظام علاماتي). ومن هذه العلاماتيات، خواص الجذب ولفت الانتباه والإشهار والتحريض والترويج والإعلان، كل هذه الخواص تكون عاملاً مهماً مؤثراً في نفسية الناشر، للفت الانتباه لوسيلة نشره، لماذا؟ 

ثم أجاب المظفر، مضيفا: في عالمنا العربي البعيد كل البعد عن الأدب، لا تستغرب أن تسأل مصرياً من هو طه حسين فيجيبك: أليس هو من فتح قناة السويس؟ أو أن تسأل بصرياً من بدر شاكر السياب فيجيبك: اعتقد أنه المحافظ القديم بينما لا يعرف اليماني عبد الله البردوني أو المغربي إحميده صولي، بينما يحفظون أسماء السياسيين وسيرهم وأبنائهم ومعلقيهم عن ظهر قلب! 

العقل العربي اعتاد على السلطة والمتسلطين الذين لا يرحلون في أغلب الأحيان إلا بعد هرمهم، ولكنهم لم يعتادوا على إشهار الأديب، ولذلك اعتقد أن وسائل الإعلام المقروءة تناغم وتناغي هذا الهاجس العربي في كيفية الانجذاب لصحيفة تحمل صورة الحاكم الجميلة والتي غالباً ما يعملون على تصميمها مرتزقة مهرة.  


أن تكون سيد الغلاف 

الشاعر طه الزرباطي، أجابنا بنص إبداعي موجه لكل من لا يريد للمثقف أن يكون حاضراً ومؤثراً في المجتمع قال فيه: قلمُك يُقلقُهم، بل يُزعُجهم، وجودُك يفضحُهم، أنك الفَرسُ الفقيرُ، المُختلف، كيف تتصور أن يسمحوا لك أن تكون سيد الغلاف، كيف يمررون سلعهم مزدانة بنساء عاريات، كيف يمكن أن يتركوا لك الفَرس، وأنت الفارس، والأرض. هذه الأيام يسرقون حتى كلماتنا، ويفرضون كوابيسهم علينا.. أنهم ضد المُختلف؛ سيما حينما يكون المختلف مثالا.. يرشقون حتى تمثال السياب، ليعود غريبا على الخليج.. إنهم يحلمون بمن يشبههم.. وهذا هو السر.