عدوى تولستوي
عبد علي حسن
لاشك بأن ظهور النظريات الحديثة ووجهات النظر الجديدة والمفاهيم المعرفية في زمن ما لم يكن وليد الصدفة ولم ينشأ من فراغ وعشوائية، وإنما هناك سلسلة ممتدة تشكلها حلقات تمثل مراحل حضارية بعضها يولد من رحم الأخرى، وبمعنى أدق فإن كل وجهة نظر جديدة تنطلق من وجهة نظر سابقة على سبيل ملء البياضات التي يتركها القديم. وهكذا فإن كل جديد مرتهن بصيرورة اجتماعية تستوجب صيرورة معرفية تتعرض فيما بعد إلى تقويض لتبدأ حلقة جديدة وفق الصيرورات المتتالية، والتراث المعرفيّ الإنساني منذ سقراط ولحد الان يمدنا بالعديد من المصاديق التي تؤكد ما ذهبنا إليه.
وعلى سبيل المثال فإن نظرية المحاكاة التي تعدّ من أقدم وأهم النظريات التي كان لها الدور الفعال في تطور حركة النقد الأدبي التي كان أفلاطون أول من نادى بها في كتابه (الجمهورية) قد تعرضت إلى الإضافة والتعديل (من قبل تلميذه أرسطو، فقد ركّز أفلاطون على فكرة أن الفن يقتصر على تقديم نسخ ماديّة غير كاملة للأشياء، بينما يرى أرسطو المحاكاة على أنها قوة عقلانية وشكلاً مهمّا في الفن والشعر، ويتجاوز الأشياء الماديّة ليكشف الجوانب الكامنة
فيها.
وفي الفكر النقدي المعاصر فقد وجد (هابرماس) مثلاً أن البنيوية قد تغافلت عن دور المتلقي في العملية الإبداعية وقد حان الوقت لمساهمة فاعلة من قبل المتلقي في إنتاج النص، وكذلك رأى نقاد ما بعد البنيوية الذين ظهرت إضافاتهم للفكر النقدي المعاصر عبر البدائل الجديدة التي اغفلتها البنيوية، ولعل نظرية التلقي واستجابة القارئ للألمانيين (ياوس) و(ٱيزر) من أهم مناهج ما بعد البنيوية التي اختفت واهتمت بالمتلقي بعدّه قطباً مهما في عملية إنتاج النص، إذ أن تقويض الحداثة من قبل فلاسفة ما بعد الحداثة/ دريدا، ليوتار، هابرماس منذ النصف الثاني من القرن الماضي قد فتح الطريق أمام طروحات فلسفية استفاد منها النقد كثيرا في تفعيل آلية تأويل النصوص ودحض مركزيات الحداثة لإيجاد علاقات جديدة بين النص والمتلقي، هذه العلاقة التي أصبحت حجر الزاوية في الفكر النقدي لما بعد الحداثة وانعكاسها في الأدب.
ولعل الاهتمام بهذه العلاقة تمتد منذ النشاط المعرفي للإنسان، فعلى مرور الزمن تظهر بين الفينة والأخرى بعض المفاهيم المتعلقة بهذه القضية التي تحتل أهمية بالغة في النظرية النقدية ، ذلك بأن ترسيمة مكونات النص الأدبي تشير وبما لا يقبل الدحض إلى وجود المتلقي كطرف مهم في هذه الترسيمة، فهناك مرسل ورسالة ومرسل إليه، وبمعنى آخر هنالك رسالة للنص، يرسلها الكاتب إلى مرسل إليه/ متلق، ولاوجود لنصّ لذاته أي لا يتضمن رسالة، بسبب من ترسّب وجهة النظر في الوعي الكاتب الذي يستدعيها حال الكتابة الإبداعية ، ومن الكتّاب من ذهب إلى أبعد من مهمة النص الرساليّة هذه كما وجدتها في مقالة للكاتب الروسي (تولستوي) الذي يتناول علاقة المرسل/ الكاتب بالمرسل إليه/ المتلقي، من خلال البحث الدقيق في كينونة الكتابة وانتقال أثرها إلى المتلقي.
ففي مقالة كتبها تولستوي بعنوان (ما هو الفن ؟) التي نشرت لأول مرّة عام 1896 وترجمت إلى الإنكليزية عام 1899، وبعد ما يقرب من مئة عام وتحديدا في عام 1996 وضعتها الأستاذة (جولي. س فان كامب) في أربعين نقطة لتسهيل رجوع طلابها إليها وانهتها بعدد من الأسئلة، وقد ترجمها بتصرف الدكتور رضوان مسنات ونشرتها جريدة الرأي مؤخرا، إذ يعرّف تولستوي الفن فيقول (إننا كي ندرك معنى الفن بعمق علينا أن نكفّ عن اعتباره مجرد متعة للإنسان، وأن ننظر إليه كحالة يمر بها الكائن البشري) ويتضمن هذا القول اعتبار الفن أياً كان جنسه أو نوعه إنما هو - برأيه - إحدى وسائل التواصل الإنساني، ويشترط تولستوي في الفن مبدأ الصدق في التعبير ليتم توحد عواطف ومشاعر الفنان بعواطف ومشاعر المتلقي، وعندئذ يكون الفن وسيلة فعالة من وسائل التواصل الإنساني، لذا فإن أي إنتاج فني غير صادر من عمق مشاعر وعواطف الفنان فهو غير مؤثر بل هو (بضاعة رديئة) وسنكون أمام لغو وكلام فارغ.
وازاء ذلك فإن تولستوي يقترح لتحقيق توحد عواطف ومشاعر الفنان بمشاعر المتلقي مصطلح (العدوى) أي انتقال مشاعر الفنان في عملية الخلق الفني إلى مشاعر المتلقي، إذ أن تولستوي يرى أن الفن الحقيقي والصادق (يتفتت ويذوب) داخل وعي المتلقي إلى درجة يصعب فيها فصل إحساس الفنان عن إحساس المتلقي، ولا يكون ذلك إلّا عبر تحقيق تلك (العدوى) التي تصيب المتلقي ، وكلما كانت هذه العدوى أشدّ كان الفن أرفع مستوى ، وكانت النشوة أكثر تحقّقاً، وتثير أطروحة العدوى لتولستوي هذه جملة من الأسئلة المتعلقة بطبيعة العلاقة بين منشأ النص ومتلقيه.. من قبيل.. لماذا نعجب بهذا النص دون آخر؟
ما الذي يحصل في عملية الإعجاب هذه؟
لماذا يبرز هذا الشاعر دون الآخرين؟
ماهي حدود الصلة بين المتلقي والنص؟
ولعل تولستوي يجيب ضمناً على جميع هذه الأسئلة وربما أسئلة أخرى تتفرع من هذه المنطقة بإشارته المتسعة وهي (إن عدوى الإبداع ينبغي أن تسري من المبدع إلى المتلقي) من خلال صدق التجربة الشعورية وقدرة الكاتب على نقل هذه التجربة الشعورية إلى المتلقي التي يترتب على إصابة المتلقي بهذه الـ (عدوى) الإبداعية من منتج النص إلى المتلقي الكثير من امكانيات احراز النص منزلة مهمة ومؤثرة وفاعلة في مرجعية المتلقي المعرفية والجمالية، وبالتالي مساهمة المتلقي في إنتاج النص عبر المعايشة الصادقة لتجربة النص.
وهنا تتبدى قدرة المبدع في وضع المتلقي في الطقس الإبداعي الذي أنتج النص وأعني به تجربة النص هذا أولا وتوفير القابلية والقدرة على استخدام اللغة المتمكنة من نقل التجربة كيما يتوفر الطقس الإبداعي ليعيش المتلقي التجربة الإبداعية كاملة.
ووفق إشارة تولستوى فان المتلقي سيصاب بالعدوى الإبداعية وبذا سيسهم - إذا ما أنتقلت إليه العدوى- في إعادة إنتاج النص وفق عملية التفاعل النصي وباستدعاء مرجعياته ليتمكن من القراءة المنتجة ..أي أنه سيتمكن من إنتاج نصه الخاص به، بعد معايشته الطقس الكتابي وتوفر إمكانية تأويله.
وهذا يتوقف على أمرين، الأول ثراء التجربة وقدرتها على إثارة الحساسية الإبداعية لدى المتلقي في رؤية اللامألوف في المألوف في التجربة الحياتية وانتقالها وفق البناء اللغوي المستدعي لفنون القول البلاغية المستوعبة للتجربة، والثاني مدى تمتع المتلقي بمرجعيات جمالية ومعرفية يستخدمها في تلقيه النص وإعادة إنتاجه فيما اذا أصيب بعدوى تولستوي الإبداعية.. وهنا يتبدى الفارق بين التجارب الأدبية وقدرتها على أن تنقل التجربة إلى المتلقي واشراكه في عملية إنتاج النص .
وتأسيساً على ما تقدّم فإن أطروحة تولستوي تسهمُ في بلورة صيغ العلاقة القائمة بين الكاتب والمتلقي والنص والمتلقي مع ذاته حين يتعلق الأمر بإمكانية تجاوز التلقي السلبي إلى التلقي الإيجابي الذي يشهد مساهمة فعّالة من قبل المتلقي في معايشة تجربة المرسل، وبالتالي التشارك في إنتاج النص تأويلاً، كما يمكن معاينة تجذير هذه الأطروحة في وجهات النظر التي اعتنت بهذا التعالق.
وأعني به علاقة المتلقي بعملية إنتاج النص عبر معايشة طقوس وتجربة الكاتب الإبداعية بانتقال الأثر الإبداعي الصادق للتجربة، إذ يمكن تلمّس ذلك في نظرية التلقي واستجابة القارئ لياوس وٱيزر.
فقد أشار ياوس إلى وجود ثلاث فعاليات يقوم بها المتلقي عند اقباله على قراءة نص ما، الاولى هي القراءة الذوقية التي تعدّ المدخل إلى تحقيق استجابة القراءة التي تحفزّه على التقدّم صوب الفعالية الثانية وهي الفهم الذي يثبّت فيها المرسل المعنى الخاص به عبر استخدامه لفنون القول البلاغية التي تُشيّدُ وتؤثث الخطاب الجمالي في بناء النص، على أن هذا الخطاب سيذهب بالمتلقي إلى ممارسة الفعالية الثالثة التي تشكّلُ المرحلة النهائية في حيثيات التعالق النصي هذا.
وأعني بها فعّالية الممارسة التأويلية التي يستدعي فيها المتلقي ذخيرته الجمالية والمعرفية ليُنتج نصّه الخاص به والمتولّد من المعاني التي طرحها النص وصولاً إلى المغزى، فالنص يُثبّت المعنى والمتلقي ينتج المغزى.
وجدير بالذكر أن هذه الفعاليات الثلاث ترتبط فيما بينها وفق علائق جدلية سببية، فنجاح كل فعالية يتوقف عن ما أسفر من صلة بين المتلقي والنص في الفعالية السابقة .
مما سلف يتبدّى لنا الأثر المعرفي للتواتر والتوالي لوجهات النظر وارتحال مخرجاتها في مرحلة زمنية معينة إلىٰ مرحلة لاحقة لا تنفي ولا تعدمُ الإضافة وملء البياضات التي تتركها وجهات النظر السابقة، لأن مهمتها الإحاطة بالصيرورة الخاصة بمرحلتها الزمنية وما يعتمل فيها من طروحات نظرية أنتجتها البنية الاجتماعية والفكرية الخاصة بتلك المرحلة الزمنية .