رزاق عداي
طالما أن العراق اليوم قد تخطى العقدين من الزمان في ممارسة النهج الديمقراطي في الحكم، وهذا الزمن يكاد يكون طويلا ومستوفيا لشروط النقد والمراجعة لهذه التجربة، فالسؤال الاول الملح هو كم من الوقت يحتاج العراقيون كي يتمرّسوا لفعل الديمقراطية؟، لا سيما أنّها ليست نظرية أو ايديولوجيا محددة تماما وفقاً لهيكل فكري محدد، بقدر ما هي سلوك وتماس سياسي واجتماعي، أو هي منهج في الحياة يتطلب المزيد من التجريب والممارسة لهذا النمط الحياتي العام.
إنَّ التجربة الديمقراطية الصوريَّة في العهد الملكي ابتداءً من فترة تشكل الدولة العراقية لم تكن بالمستوى المتقدم والراسخ لعدة عوامل، بقدر ما كانت جهداً لنخب سياسية وثقافية متأثرة كثيراً بما يجري في الغرب، وفي احسن الاحوال هي تدشين لممارسة متقاطعة مع مستوى بنيوي لمجتع كان ينزع للخلاص من عهود شديدة التخلف، ولكننا لا يمكن لنا أن نجزم بعدم وجود بعض الافراد والجماعات التي كانت تتمتع بحس عالٍ من تشخيص مسار التحديث بغية إنشاء دولة ذات مؤسسات تمتلك الكثير من مواصفات الدولة الحديثة، لكن المهمة كانت صعبة للغاية في بلد مثل العراق يتمتع بتفرّدٍ كبير في التنوع القومي والديني والطائفي، ومن المفارقات أن البنية الثقافية في العراق آنذاك كانت لا تلائم انطلاق مجتمع ديمقراطي، فنسبة الأميَّة عالية جداً، والتخلّف الاقتصادي والاجتماعي في اقصى المستويات، لذلك كانت الممارسة الدستورية والنيابية محفوفة بالمخاطر والتحديات.
وعند قراءة تجربة الديمقراطيات في البلدان المتقدمة في هذا المضمار، نجد أن أوروبا مرت بثلاث عقود من الصراعات الدينيّة والطائفيّة (حرب الثلاثين) حتى تنطلق نحو بدايات عصر التنوير أو إلى الفترة العقلانيّة التي تجمع بين العقلي المحض وبلورة الوعي الجماعي والفردي وتعميق هويتهما، لذلك كان على أوروبا الممزقة حتى تبلغ الخبرة المناسبة في ولوج المجتمع الديمقراطي، كان عليها أن تمارس حق حرية الهويات المختلفة للجماعات في التعبير والاعتقاد والمشاركة في الحكم.
إنَّ التنوع الديني والعرقي والمذهبي في العراق يجعل الثقافة الديمقراطية والممارسة لها قبالة تحدٍّ كبير، وهو ما حصل خلال العقدين المنصرمين، كما أن المجتمع العراقي كان قد ورث الكثير من المخلّفات المضادة للنهج الديمقراطي على مستوى الافراد والجماعات والمؤسسات مما افضى إلى تشنجات عميقة على مستوى العمل السياسي وأربك وعرقل حجم الانجاز والبناء، فكانت الحساسية شديدة في تلامس الهويات، وهذا كان نتجة الهوة السحيقة في التشدد في المغالبات الهوياتيّة؛ مما أضر كثيراً في مسيرة النهج الديمقراطي، فالديمقراطية تنبذ المغالاة في النبرة المكوناتية، فعندما تنكفئ الاحزاب والجماعات وتكون حبيسة مكوناتها فإن هذا سيكون على حساب موضوعة المواطنة والتي هي مادة الديمقراطية الاساسية.
إنّ الثقافة الديمقراطية تتحدد وتعرف أصلا على جهد مبذول في سبيل الجمع بين الوحدة والتنوع، فهي تتجسد باعتبارها توفيقاً بين عدد من القواعد المؤسساتية المشتركة وبين تنوع المصالح والثقافات، فمثلاً لا يمكن إجراء معاضة بين سلطة الاكثرية بما تمليه سطوتها وبين حقوق الاقليات، وهو ما يحصل دائما خلال دورات الحكم في العراق مما يمثل نكوصا في العمل السياسي يترك اثاره المدمرة ازاء الوضع العام، فالديمقراطية بأقصى تجلياتها هي النظام الذي تعترف فيه الاكثرية بحقوق الاقليات، وان العقلية الديمقراطية المطلوبة تقوم على الوعي للارتباط المتبادل بين الوحدة والتنوع، وتنغرز بالسجال الدائم الذي يدور حول الحدود الفاصلة بينهما، المواطن في الديمقراطية لا يختزل إلى مجرد مواطن بحدود الرقم، فالمواطنة هي من توفر له مساحة كبيرة بالمشاركة المجتمعية العامة.
وفي كل الأحوال يكون هناك تنويعات في التجارب الديمقراطية لدى الشعوب بناءً على الأحوال والظروف الخاصة لهذه المجتمعات، فالديمقراطية التي شاعت في فرنسا منبثقة من معطيات ايام الثورة الفرنسية، التي كانت فكرة المواطنة تشكل مرتكزها الاساسي، فكان التغيير للثورة الفرنسية سياسياً بالدرجة الاساس من دون الأخذ بالابعاد المجتمعية، اما نمط الديمقراطية الانكليزي فقد أولى اهمية لتمثيل المصالح وللنظرية الفعلية ولدور الهيئات الوسيطة، اما ديمقراطية امريكا فهي أولت اهمية استثنائية دائمة لمراقبة القوانين، ومن ثم لمسألة الدفاع عن الحريات، فقد ثبت بين سكانها الذين ظلوا متأثرين تأثرا شديداً بحركة الهجرة، وعياً بالانتماء إلى مجتمع مسير بقواعد اخلاقية وقانونية ومنتدب للدفاع عن قيم معينة، ولنشر نمط حياتي
معين.
أخيراً لا يسعنا سوى القول إنَّ منهج النقد والمراجعة لمسيرة الحكم مهما كانت توجهاته وتأمل نقاط الخطأ والصواب فيه، إن هي إلّا سمات المجتمعات الحيوية التي تنزع نحو تصحيح المسارات وليس العكس.