محمد حميد الصواف
يشخص خبراء علم الاجتماع الوضع العراقي خلال العقدين المنصرمين بالنظير المتلاشي، وهو مصطلح يطلق على الوضع الاستثنائي الذي تمر به أي دولة تشهد تحولا دراماتيكيا من النظام الاستبدادي المطلق إلى النظام الديمقراطي المفتوح، ويقسم إلى ثلاثة أجزاء.
اذ تعاني الدولة في هذه المرحلة من مخاض عسير ومكلف حتى تصل إلى نهايته الحتميَّة، مستهلا في بادئ الأمر الجزء الذي يتصف بالفوضى الخلاقة، تعقبه مرحلة تصفية الحسابات، قبل أن يختتم سيرته بإعادة تنظيم الدولة وخط منهجها السياسي والاقتصادي وترسيخ عقدها الاجتماعي.
والعراق أحد أبرز الدول التي شهدت متغيرات بنيوية شاملة منذ التغيير القسري لنظام الحكم في العام 2003، ابتداءً بالفوضى ومروراً بالصراع الداخلي وأخيراً وليس آخراً مرحلة النظير المتلاشي الذي يسبق الاستقرار الأمني والسياسي.
وبحسب علماء الاجتماع فإن كل مرحلة مما ذكر قد تطول أو تقصر حسب المؤثرات الخارجية والمعطيات الداخلية لكل دولة. وتفيد مخرجات العقدين الماضيين بأن العراق حاليا على اعتاب المرحلة النهائية لهذا النظير، وقد يخرج من عنق الزجاجة ويستعيد ارتكازه السياسي في حال سارت الأمور وفق نسبية الاستقرار الساري حالياً.
وأمس الاحتياجات التي باتت هذه الدولة ملزمة بتوفيرها هي ترميم وتطوير القطاع الاقتصادي عبر حزمة اصلاحات اجرائية تتسم بمعايير علمية مدروسة، تواكبها القدرة على صناعة القرار بحكمة ورشد وإصرار.
فبعد أن طوى العراق الملف الأمني وقطع شوطا مهما على هذا الصعيد المكلف، تقضي الضرورة مراجعة إدارة هذا الملف واعداد دراسة جدوى حقيقة للحد من أوجه البذخ والهدر، وتقنين الاحتياجات الأمنية وفق معطيات الظرف الحالي مع مراعاة الاحترازات المفترضة على المديات الزمنية المقبلة.
فالتحديات الحقيقة التي تواجه العراق في الظرف الحالي ليست كما هي قبل سنوات، ويتحتم على إدارة الدولة إعادة ترتيب الاولويات وفق المستحدثات.
وما يشار إليه في هذا المقال هو اهمية إعادة ترتيب الأولويات، وتقديم الاقتصاد على الأمن ضمن سلّم الأولويات للحكومة الحالية وسواها من الحكومات المقبلة، وايلاء ما تقدم الافضلية المطلوبة.
فالدولة بحاجة إلى خطط واجراءات تنموية أكثر بكثير من الخطط والاجراءات الامنية، واعتقد هذا ما يتفق عليه جميع المحللين للشأن العراقي، كونه انتقل من مرحلة العمليات العسكرية والمواجهات المسلحة إلى مرحلة الجهد الأمني والاستخباراتي، وهذا الأمر بواقع الحال أقل كلفة بفارق كبير عن التمويل للحرب.
فضلاً عن ذلك عدم الحاجة إلى الاعداد البشرية والتجهيزات العسكرية كما كان قبل سنوات، بل ما تفرضه الحكمة توجيه البوصلة إلى الحد من التجنيد الأمني والعسكري والتوجه صوب الجهد المدني، والمتمثل بتأسيس شركات صناعية وزراعية ضخمة تستقطب الايادي العاملة أولا وتسهم في جهود الأعمال والتطور ثانيا، فضلا عن الحد من العسكرتارية السائدة التي باتت غير مرغوبة وتسيء للمشهد الأمني العراقي بشكل كبير.
فتوجيه الأموال والطاقات البشريّة ومواردها صوب المشاريع التنموية العملاقة، والتي سبق للعراق أن حقق بها الريادة خلال العقود الماضية، يعد استثمارا ناجعا في حال أردنا أن نغادر ظاهرة النظير المتلاشي إلى بر الازدهار.