عنف الكتابة وحزن العراقيين وتأسيس مجلس أعلى

ثقافة 2023/11/19
...

 استطلاع: صلاح حسن السيلاوي

قضايا متعددة، تشغل حيزاً واسعاً من اهتمام المثقف العراقيّ ، فهو الراصد لمشكلات المشهد الإبداعي والمعرفي، والظواهر التي تجتاح حياة المجتمع، آراء معرفية عديدة، لا يمكن الإحاطة بكل تفاصيلها عبر موضوع واحد لسعتها وتعدد أوجهها كرأي بعض المعنيين، بإصلاح الشأن الإبداعي، والعنف وكيفيات إعادة إنتاجه، وفكرة تأسيس مجلس أعلى للثقافة، ومسؤولية حزب البعث المنحل عن مقتل شاعرين، والعنف في الأجناس الأدبيّة، وصناعة ثقافة للتعايش، وحزن العراقيين وجذوره السومرية، ومشكلات الكتاب العراقي وهمومه. كل ذلك من خلال أسئلة مختلفة موجهة لعدد من المثقفين العراقيين عبر هذا الاستطلاع.

إصلاح الشأن الثقافيّ
الشاعر والناقد حسن السلمان، رأى أنّ مسألة إصلاح الشأن الثقافي والشروع بالتنمية الإبداعية بشكل عام، تتعدى المطالبة بحصة مالية مجزية لوزارة الثقافة، وإنشاء بنى تحتية من دور عروض سينمائيّة ومسرحية وبيوت ثقافيّة وغيرها. كما تتعدى التوجه إلى شريحة المثقفين ورعايتها ماديا ومعنويا، وإقامة أنشطة ثقافية من مهرجانات وندوات وحلقات دراسية وورش متنوعة الأغراض مع أن كل هذه الأمور مطلوبة وضرورية. فالمسألة تكمن في إعداد (ثورة ثقافية) مضادة للثقافات المهيمنة كثقافة العنف والاقصاء والطائفية والتطرف الديني الشاخصة مظاهرها وممارساتها التعسفية التي لا تمت بصلة للتحضر والحياة المدنية بشكل عام. وأضاف السلمان موضحا: بغير هذه الثورة ورعايتها ودعمها معنويا وماديا وحمايتها قانونيا تصبح كل الاشياء من بنى تحتيّة وموارد ماليّة وانشطة ثقافيّة مجرد شواخص على المستوى العمراني ومال سائب على مستوى الدعم المادي وتظاهرات خالية المحتوى على مستوى الأنشطة والمهرجانات. فالخطاب الثقافي السائد الآن، وأعني به تحديدا الخطاب الديني القائم على النعرات الطائفية والتثقيف المحموم كل بإتجاه طائفته وجهته، هو خطاب مهيمن نظرا لتبنيه من قبل أحزاب وتيارات وجهات متنفذة، كون أغلبها مشارك في الحياة السياسيّة، سخرت تلك الجهات أقصى طاقاتها لتفرضه على الناس البسطاء عبر منابرها الإعلامية المتعددة، ليس من أجل الخطاب بحد ذاته، بل بقدر مايتعلق الأمر بخدمة مصالحها وهي مصالح ضيقة. إذن فالمطلوب توجه ثقافي جديد يضع حدا للخطابات الاقصائية عبر تضافر جهود من يهمه إشاعة ثقافة تتسم بروح التسامح والرقي وتعمل على تقريب وجهات النظر المتقاطعة خدمة للصالح العام.

إعادة إنتاج العنف
الشاعر وديع شامخ، يرى أن العنف يمثل واحداً من الأعراض المرضية  للشخصيَّة الإنسانيّة نتيجة لأسباب متعددة. ولا يستثني شامخ الشخصيّة العراقية من هذا الداء الفتاك، مشيرا إلى أن نظرة للماضي القريب نحو تأريخ تشكيل الدولة العراقيَّة  1921  تكشف لنا تأثير مصادر متنوعة لتغذية العنف، ومنها التزاوج غير الموفق بين المزاج المدني والمهاجر البدوي والريفي، التربية الدينية في إبراز عنصر التفوق على الآخر بشيوع  ظاهرة التسامح بدلا من التعايش، الأدلجة السياسية واحتضانها للإحتراب  مع الآخر المختلف وغيرها من الأسباب.
 وأضاف بقوله: ولكننا نتلمس آثارها عبر ما حدث للعراقيين في الاربعينيات وسحل وشنق الوصي عبد الأله ونوري باشا وقتل العائلة المالكة صبيحة  14 تموز عام  1958 .
وأما فيما يخص الحقل الإبداعي، فالكاتب ابن بيئته، وهو أيضا له ملهماته في العنف كتابة وتمثلا وسلوكا .
اذا ما ذهبنا لجذور العنف في الأدب والشعر العربي فسنجد من الكنوز الشعريّة والسردية ما يحث على تغذية الروح العدائيّة تجاه الإنسان.
وبنظرة عامة إلى الشعر في حقبه المتعددة منذ عصر ما قبل الإسلام « الجاهلي»  الخلفاء والاموي والعباسي وحتى العصر الحديث ، سنجد تراثا هائلا من هذه الروح المغذية للإرهاب .
وليكن الشاعر المتنبي مثالا على هذه العقلية، لأنه كان شاعر بلاط وطامح في الوجاهة والسلطة، فقد حول شعره إلى دعاية دمويّة لانتصارات سيف الدولة كما يصور في بيت شعر دموي ( نَثَرْتَهُمُ فَوْقَ الأُحَيْدِبِ كُلّهِ كمَا نُثِرَتْ فَوْقَ العَرُوسِ الدّراهمُ ) كناية عن نثر رؤوس جيش الروم على الجبل !! وفي السرد  نجد  شخصية شهريار القاتل في قصص ألف ليلة وليلة .
وقال أيضا: ومن هذا التراث الفكري والأدبي نشأت بعض الأقلام في العراق وخصوصا في فترة الحرب العراقيّة الإيرانية وما بعد التغيير في 2003 لتعيد هذه الروح العدائية على وفق موجهاتها السياسية والنفعية عموما ، لكي تمجد الحروب والقتل وتشرعن وتشيطن للنزعات الدموية في نصوص شعرية وسردية يندى لها جبين الإنسانية .
لقد تحول المنتج الإبداعي إلى شرطي وجزار في بازار الساسة ، وأسهم في إشاعة روح العنف وتكبيل مهمة المبدع المثقف التنويري الغرامشي إلى تابع لعقلية الهيمنة السلطوية بكل تجلياتها .
للأسف تورط وعن قصد وربما بعوز هؤلاء الكتّاب في إعادة إنتاج العنف بطريقة مرعبة ساهمت في بعث روح العداء وخلق واحديات مهيمنة ضد الروح العراقيّة المتنوعة في الطيف الثقافي .
ولكن هناك ذرى وهامات عالية في المشهد الشعري والسردي أنتجت نوعا متفردا من الإبداع الإنساني الذي يبشر بعالم السلام والمحبة، وينتصر للإنسان وتفاصيله الدقيقة .

تأسيس مجلس أعلى للثقافة
القاص أحمد محمد الموسوي، يرى أن الثقافة اقترنت لدى الأنظمة السابقة مؤسساتياً بالجهاز الإعلامي والحكومي وربما الأمني أيضاً .
مشيرا إلى أنها منتج اجتماعي لا سلطوي، فعندما تدخل السلطة في مخاضاتها قد تجهض المشروع الحضاري خصوصاً في مجتمع يتميز بالتعددية مثل العراق . مبينا أنّه لهذه الأسباب وغيرها يجد من الضرورة أن يتم تشريع قانون ينظم انتخاب (مجلس أعلى للثقافة) من المثقفين أنفسهم يرسم قواعد العمل ويمنحه الصلاحيات الموكلة بالوزارة وترتبط به المؤسسات الثقافيّة، وتكتفي السلطة بمستشار ثقافي بدرجة وزير يدير العلاقة بينها وبين هذا المجلس .

اغتيال البريكان ومهدي طه
الشاعر كريم جخيور، تحدث عن قتل نظام صدام حسين لشاعرين من البصرة أولهما  محمود البريكان الذي يعد من جيل الرواد واسماً مهماً في الحركة الشعريَّة الحديثة ويذهب بعض النقاد إلى  تقديمه شعريا حتى على السياب، لافتا إلى أن البريكان وعلى الرغم من أهميته ترك الشهرة والظهور واعتزل الحياة الأدبيَّة مكتفيا ببعض اللقاءات مع الأدباء  في بيته، حتى أن بعضهم وصف عزلته بالعزلة الفلسفية، الآخرون قالوا عنها رفضا للنظام، ولكن الكل أجمع على تفرده وشعريته. ويستطرد جخيور بالحديث عن البريكان بقوله: في منتصف التسعينيات قابله الشاعر الراحل رياض إبراهيم ونشر بعض قصائده في مجلة الأقلام.
بعد مقتله المريب كتب عنه الكثيرون وخرجت عن دار الجمل مجموعة شعريَّة  تضم بعضا من قصائده وقام الدكتور شهاب الناصر بترجمة نصوص مختارة له وصدرت في كتاب لم ينل شهرة تتناسب مع حجم إبداعه وظل معروفا في أوساط النخب فقط، وبعد مقتله ضاع الكثير من إرثه الإدبي.
الشاعر الثاني هو مهدي طه تحدث عنه جخيور بحرارة قائلا: وهو من الجيل السبعيني وقد قتلته المخابرات العراقيَّة بإغراقه في النهر وكان عمره 22 عاماً عام 1975 وقد أصدر إتحاد أدباء البصرة مجموعته الشعريّة (أغنية حب) التي أشرف على إعدادها والتقديم لها صديقه الشاعر حيدر الكعبي ومن المصادفات الغريبة أن مجموع قصائده كان 22 قصيدة كما أشار إلى ذلك الكاتب جاسم العايف وقد قال الشاعر الكبير ياسين طه حافظ عندما قرأ المجموعة أن هذا الشاعر لو بقي حيا لغير في الشعريّة العراقيّة وأضاف إليها.

العنف في المجتمع والكتابة
الشاعر عباس السلامي تحدث عن موضوعة العنف وتغلغله في حيوات المجتمع وبين الأجناس الكتابية فقال: يمكننا أن نعرّف العنف بأنّه القوة التي يلجأ إليها الأفراد أو الجماعات، وهي تجسد من ممارسة الأذى النفسي والجسدي  في مابينها .
 يتخذ العنف أشكالا عديدة، وهناك أسباب كثيرة تعزز ظاهرة العنف خاصة في المجتمعات التي تحدث فيها أزمات، وتحولات كبرى، وتكون هذه الظاهرة نتيجة حتمية وممارسة شائعة بين الأفراد، أسباب لا مجال هنا لذكرها جميعا أهمها غياب الوعي، فلنأخذ مثلاً ما مرّ على العراقيين في فترات متعاقبة من سقوط النظام الملكي وما أعقبه من أحداث مأساوية  وصولا إلى  الحكم الديكتاتوري  1968- 2003 ، سنوات طويلة مورست خلالها على المجتمع شتى أساليب القتل والقمع والتهجير ، وعسكرة المجتمع، وتوجه ثقافي ممنهج للقبول بكل ما ينتهجه النظام الشمولي، من قرارات مصيرية تتعلق بعلاقات العراق الدولية، والحروب العبثية، أعقبتها فترة مابعد سقوط الديكتاتورية - فترة، مثقلة بتداعيات تلك السنوات المريرة -، تعإلى فيها الخطاب الأيدلوجي والخطاب السياسي إضافة إلى التوجه الإعلامي المتعدد، كل هذه العوامل مجتمعة أسهمت وعززت من ظاهرة العنف، وجعلت منه  ظاهرة ممتدة وعلى فترات متواصلة.
وأضاف السلامي بقوله: العنف كان ومازال الشغل الشاغل في  كل أجناس الأدب القديم منه والحديث ليس في العراق وحسب بل في أدب الإنسانية، وكثيرا ما نتلمس - بالترميز أو بالدلالة وفي أحايين بالمكشوف-،  العنف في الكثير من الكتابات التي  تبنتها ودعمتها بعض المؤسسات العاملة في الإعلام المقروء والمرئي والمسموع، باعتقادي أن الكاتب الملتزم وغير الموجه حينما يتخذ من الكتابة كوسيلة لمحاكاة العنف أو ملامسته في كتاباته، حتى وإن تراءى للكثير بأنه يبث العنف ويعمل على إشاعته، فإنه يمارس كتابة «أدب العنف «إن جاز لنا تسميته ! ليس لأن الكاتب هذا له روح عدائية أو يتخذ من العنف كنهج بالمطلق، بل هي محاولة حثيثة منه  لكشف الصور المؤلمة، لأوجه هذا العنف وتعريته كممارسة مضرة  ومدمرة لا نجني منها سوى الدمار والخراب والتفرقة بين مكونات المجتمع الواحد.

صناعة بيئة للتعايش
الشاعر الدكتور عماد العبيدي، قدم رأياً عن ضرورة صناعة بيئة ثقافيّة للتعايش مشيرا إلى أن التطرف حالة سلوكية نابعة من المخزون الإجتماعي في لا وعي الشخص وهو ـــ في الأساس ــ يأتي من خلال التواصل الخاطئ مع الآخر في طروحاته المتعددة عن قضية معينة تهم المجتمعات أفرادا وجماعة، بحيث يغدو هذا التطرف عاملا محفزا لإنتاج الذات بصورة أخرى بعيدة عن الواقع بكل أطيافه وإنما داخلة  ــ تلك الذات ــ في توترات الحالة التي أدت إلى صياغتها على وفق منظور اجتماعي معين بغض النظر عن صحة أو خطأ ذلك المنظور مما يؤدي إلى انحراف الشخصيّة عن المسارات المعتادة في نمو المجتمع وتطلعاته المختلفة.
وأضاف العبيدي بقوله: لم يكن التطرف ليجد له أرضا للتقبل لولا المشكلات المتنوعة التي يفرزها المجتمع عينه فهو الحاضنة الواسعة لكل ما هو غير مألوف من القضايا التي يتعاطى معها أفراد المجتمع الواحد بوصفها الصورة المنعكسة لآراء وأفكار الأفراد فيه.
وعن الحلول الممكنة لمكشلات التطرف في حياتنا قال:  الحل يكمن في معالجة مشكلات المجتمع بكل أنوعها من خلال وضع خطة ستراتيجية مدروسة للنهوض بالواقع عن طريق نشر الوعي المتنور والقضاء على التخلف والجهل وأيضا معالجة النفس البشرية من أمراضها المكبوتة بواسطة فك التباساتها الفكرية وتضاربها . ويكون ذلك بتوفير بيئة قابلة للتعايش مع أفرادها لا أن تتقاطع معهم.

الحزن العراقيّ وجذوره
الشاعر رزاق الزيدي، تكلم عبر ما قدمه من رأي عن موضوعة الحزن العراقي وجذوره مشيرا إلى أن واحدا من أهم أسباب اتساع دائرة الحزن في الثقافة العراقية هو أن اغلبية مبدعي البلاد ينتمون إلى الجنوب والوسط وهؤلاء كما أثبتت الأنثربولوجية وعلم الوراثة من السومريين الذين سكنوا تلك المناطق قبل أكثر من خمسة آلاف عام. ومضى الزيدي مبينا أن ثمة تقرير لعالم روسي مختص بعلم  الوراثة أكد بأنّ 81 بالمئة من سكان تلك المناطق أي(الوسط والجنوب ) من سلالة النبي إبراهيم الخليل (ع) السومري العراقي وأضاف موضحا: من هنا نستطيع القول بأن حزنا تراكميا يمتد عبر الأزمان لتلك الجينات السومريّة الأولى حيث كان هذا الحزن موجودا على هيئة ما نسميه حاليا (النواعي اوالنعاوي) فكان الإنسان يسمعه يبعث من المعابد حين يمر بجوارها كما يقول الباحث الراحل حسين الهلالي في دراسة له عن الأطوار أوكما في قصائد السومريين كالشاعر(دانجو أدامو) ولأنها مناطق مائيّة على حافة الصحراء فهي تتعرض للنكبات دوما أما بسبب الفيضانات التي تقضي على كل أسباب حياتهم أو بسبب غزوات الصحراويين الغلاظ القلوب كما إن الصوت في الماء يصبح شجيا يؤدي ذلك لتراكم حزن شفيف وأسباب أخرى كثيرة لايتسع المقام لها هنا.

هموم الكتاب العراقيّ
الموضوع الذي تحدث عنه الشاعر والناقد نصير الشيخ هو الكتاب العراقي وهمومه ومشكلاته منطلقا من الأهمية البالغة للكتاب في الحياة ودوره الفاعل في إنتاج تفاعلات ثقافيّة تفتح نوافذ مع الآخر، وتبقى هموم الكاتب/ المبدع/ المنتج نصياً. على بساط المناقشة والانتظار، لارتباط النتاج الأدبي والإبداعي عموما، وارتهانهِ بمنافذ تسويق هذا النتاج، يقف في مقدمته (الطباعة ودار النشر ومن ثم مشاركاته في معارض الكتاب).
وأضاف الشيخ موضحا: اعتقد أن أزمة الكتاب العراقي المدعوم مازالت تراوح في مكانها، وذلك لأن ظلال الوضع السياسيّ العام وعدم رسم ستراتيجيات بعيدة المدى وعدم إيلاء الكتاب ودوره أهمية في الحياة العامة، كلها شكلت وتشكل عائقاً  أمام أخذ الكتاب مكانته المفترضة، لذا نجد أن المبدع أو الأديب (منتجاً مثقفاً) يصطف على رف مكتبته الشخصيّة أوعلى شاشة حاسوبه العديد من المخطوطات الجاهزة للطبع، شعرا وقصة ونقدا وبحوثا، كلها تنتظر قطافها الإبداعي، لكنها تصطدم بأشكالية تنفيذها ورقيا ككتاب مطبوع.  وبالتالي وأقولها كحقيقة مرةٍ..لا تميز في هذا الشأن، وسيظل الكتاب دون مستوى الطموح في السياسات المرسومة من قبل الحكومات.