اليوم العالميّ للنقد

ثقافة 2023/11/19
...

  د. حيدر عبد السادة جودة

أعلن المؤتمر العام لليونسكو بتحديد اليوم العالمي للفلسفة من كل سنة، تحديداً في شهر نوفمبر، اعترافاً بالمساحة الهائلة والقيمة التي تقدمها الفلسفة للفكر البشري. وفي استعارتنا لمفهوم النقد بدلا عن الفلسفة، إشارة ضرورية لتلازم النقد والفلسفة، فليس للأخيرة أدنى معنى، متى ما تحررت من النقد، فالفلسفة بدونه عبارة عن ضرب من ضروب التسفيط الفارغ، ولهذا اخترنا (اليوم العالمي للنقد).
ولا شكَّ في أنَّ ما يميز الإنسان عن سائر الكائنات الأخرى هو العقل، وأن ما يميز العقل الفعّال عن العقل المنفعل هو النقد، بل لا يكون العقل عقلاً بغير النقد، لأن من مهام العقل الأساسية هو قدرته على تحليل الواقع، وليس هنالك احتمالية للتحليل ما دام مفتقراً إلى النقد.
وفي مقالٍ سابق منشور على صفحات (الصباح الثقافية)، أشرنا إلى ما أسميناه بـ (محافل الفلسفة.. مآتم الفلسفة) قلنا فيه:» في كلِّ مرةٍ تُقام فيها المحافل الفلسفية، بأشكالها المختلفة، يتمُّ فيها إعلان موت الفلسفة؛ وكما أعلن نيتشه عن موت الإله بفعل الإله ذاته (لقد مات الإله وما أماته غير رحمته)، فإن شعار موت الفلسفة لم يحمله الأعداء أو الخصوم، بل الفلاسفة ذاتهم أو المتفلسفين أو طلاب الفلسفة وأساتيذها...”.
ومردُّ ذلك الموت يعود إلى الافتقار للنقد، فبغياب الأخير يفتقر الباحث إلى الأداة الحقيقية لبناء الخطاب الفلسفي، لذلك يبقى يسير على هامش الحقيقة، لكونه مفتقراً إلى الوسيلة الحقيقية المؤدية لها.
وتجدر الإشارة إلى أن التضادَّ المبرم ما بين الخطاب الفلسفي والخطاب الديني، يعود إلى أن الأخير لا يقوم إلا على التسليم بما أورده السلف، بينما يخضع الخطاب الفلسفي لسلطة النقد والتحليل والمساءلة، والخطاب الأخير يخلق فضاءً رحباً للفكر البشري، بينما يؤسس الخطاب الديني للنخبة واحتكار الحقيقة في دوائر فقهية محددة.
ولهذا لا نجد سياجات محرمة أمام الفلسفة، فلا توجد خطوط حمراء تقف عندها، ولا إيمان مطلق بالمقدس، الكلُّ يخضع للسؤال أمامها، وما كان لها أن تكون كذلك لولا النقد، فهو سلاحها المُتفّرد، الظاهرة التي تليق بها ولا يليق بها غيره، معجزة الفلسفة، القائم بأعمالها والحافظ على رونقها وبهائها، الظاهرة الحضارية، تلك التي تحملُ همّ التحرر من الوصايا المفروضة علينا، عموديةً كانت أم أفقية، من دونه يُخلق مجتمع مُدجّن، ببغاوي، يردد ما يقوله المُفترون، عيال الله، أصحاب الاحتكار المطلق للحقيقية؛ من دون النقد لا نتجدد، وبذلك ندخل نفق الاندثار.
وفلسفة اليوم تُعاني من دوار التكرار، تُمارس الأكاديميات المختصة سياسة التدوير في طبيعة الانتخاب الموضوعي لمباحث الفلسفة، الأمر الذي يُنهي الفلسفة وينتهي بها لأن تكون نِتاجاً أعورَ، يسير باتجاهٍ واحدٍ نحو الهاوية، ومتى ما أبصر المرء طريقاً آخر، تنهال عليه سِهام التطفل الاكاديمي فيصّيروه أعورَ من جديد، وهنا يتحقق حلم الوصايا، ذلك الذي قاتل (إيمانؤيل كانت) في سبيل دحضه والتحرر منه، تحديداً في مقاله الشهير (ما التنوير؟)، حيث قال: “تجرأ على استخدام عقلك الخاص بعيداً عن وصايا الآخرين، فذلك هو شِعارُ التنوير”.
على أن (كانت) مؤمناً، بالضرورة، بأن مستقبل التحرر من وصايا الآخرين لا يتمَّ إلا بالنقد، وتشهد على ذلك كتبه النقدية الثلاثة.
وحتى لا نكون طائشين في تسديد المعنى المنشود للنقد، وفي سبيل تقعيد قواعده، ينبغي أن نشير إلى ضرورة أن يخضع النقد لمسألة التقنين والضبط، ليتحقق الاتزان القصدي، على أن ذلك التقنين لا يمتُّ لدعوات بعض السياجات الوهمية التي دائما ما تُطرَح بفعل المقدس، وإنما لمحدودية العقل في ممارسة النقد، وهذا ما أشار إليه إيمانؤيل كانت في مقدمة تصديره  للطبعة الثانية من كتاب (نقد العقل المحض)، ولكن الأخير قد أكد على تعالي الموضوعات على النقد، ولم يقل أن هنالك ما هو أدنى من أن يكون موضوعاً للنقد، لأنها لا تؤثر في حيثيات الواقع، على أساس أن معيار ما ينبغي نقده، قدرته في التأثير بوقائع الأشياء الحسية، فحتى لو كان إلهياً، ما دام مرتبطاً بالواقعة البشرية.
وفي سياقٍ آخر، هنالك ما يُسمى بنقد النقد، ولكن لا على أساس أهمية هذا الموضوع الكبير والبارز، وإنما على أساس الدفاع عن الظاهرة التي غالباً ما تكون في الهامش، نتيجةً لما تعرضت له من انتقادات، وهذا ما تنبه له (تيري إيجلتون) في كتابه عن الثقافة، وهو ما نسميه بـ (موضة النقد)، ففي لحظة افول هذه الظواهر التي لا يختلف على سلبيتها أحد، تظهر مجموعة من الأنصار تدافع عن الهامش بوصفه مظلوماً ومعرّضا لظاهرة التنمر، وهم من زاوية أخرى يُدافعون عنه بنيّة الاختلاف عن السائد، مع إيمانهم بما يُقدِّم من
بؤس.
مع هذا وذاك، ينبغي أن نحمل النقد سلاحاً فاعلاً، ذلك من أجل الخروج من حالة التردي المعرفي, تلك التي نعيش تحت نيرها وقسوتها على الواقع، فنجاح الأخير يتحقق بالتمرد عليه لا بالخضوع لسلطانه، فبالأخيرة نجمد، وبتلك نُساهم في خلقِ واقعٍ جديد وملائم، ولا يتمُّ ذلك، كما أسلفنا ورددنا، إلا بالنقد.. فكلُّ عامٍ والنقد بألف خير.