حديث الفراشة

ثقافة 2023/11/20
...

  ياسين طه حافظ

سنون مضت ما كانت تعنينا فيها كلمات مثل الوردة، الفراشة، الحمام.. الحمام، الذي تغنى به حضيري ابو عزيز وأراده بريداً وحامل شكوى أيام منع الحب، ما غفلنا عنها ولكنها وُضِعت ضمن قوائم ما لا ترغب فيه الحداثة. وهكذا عزلنا الفن عن الطبيعة في حال، لا يقين فيه وكأن مفردات الكون الأبدية وما هو جميل في الحقول والتلال حصة الرومانسية، التي كانت مجداً وصارت شارةً لمعنى قديم كان.لو أتذكر الآن متى وأين وردت الفراشة في أشعاري واختفت من بعد ولم تعد. اليوم، وأنا في حيدر آباد الهند، في ضيافة مستشفى، كانت المتاعب بعيدة والنهار هادئاً كما سيمر الملك.

كل شيء بعيد ولا قلق. والشمس الذهبية حلوة الدفء على الفراش والحقائب وعلى الكتاب والمنضدة وناعمة تلامس الاشعةُ، الجدار.

هذه أول مرة اشعر فيها بعذوبة الأشعة الذهبية، وكم هي مثيرة لمشاعر من زمن خامدة. ما أجمل الدفء يحاول أن يأخذك كلّك اليه.

فجاة، خطفت ترفرف بيضاء رقيقة لطيفة وكأن تبحث في الغرفة عن شيء نسيته. كيف دخلت هذه الفراشة والباب والنوافذ كلها مغلقات ولا طريق؟

أوصدت الباب بعد ارتحال المسا، مساء أمس، وهو الصباح الآن. فكيف ومن أين دخلت هذه الزائرة الحلوة الرفيقة فرحانة وكانت سعيدة بسلامة أملاكها؟ لا أدري، قد تكون تورطت في دخول الغرفة خطأ كما تورطت وكثيرون مثلي في الحياة. يبدو أنها أكملت دورة البحث كما تريد ولم تجد ما أرادت، فجاء وقت مغادرتها إلى العالم الخارجي. عبرت قريباً مني وعادت تدور تبحث عن فتحة تفلت منها.

ما فكرت به هو ما يفكر فيه كل فاقد لحريته، أن افتح لها نافذة وأساعدها على استعادة حريتها الضائعة. ظلت تدور حولي، حول لون يجتذبها هنا ولون هناك. ها نحن الاثنين ياعزيزتي، ما الذي تريدين واستطيع؟ تذكرت شيئاً قرأته في مجلة بعد ظهر امس. تتحدث المقالة عن هندي يقبع في جُبةٍ عتيقة ويجثم في العراء يتحدى العاصفة، بينما الناس يدخلون بيوتهم. هو باقٍ ملتذاً بأنهم يهربون من الريح العاتية والعصف وهو يحرز بطولة الصمود واللاخوف. لا شك هي بطولة ولكن هي ايضاً صدام عبثي مع الاقوى ومناورة أو مخادعة للناس أو لنفسه. في هذه اللحظة الفراشة خطفت وكأنها تصحح أفكاري أو تنبهني إلى سبب اغفلته. إنها حياة وأن الإنسان يحيا والفراشة تحيا ويحيا الفيل والقندس واليربوع، الإنسان! لهم ما يجدون فيه، أو إذا خابوا، يعبّرون به عن وجود حي يتذوقون من خلاله الحياة، وهي حياة شاسعة يجهلون، كما نجهل، ما فيها ونحن نأمل بأن لها كامناً في مكان نظل العمر كله نبحث عنه. فاتني أن أفهم من تطواف الفراشة متلهفة وآمنة ومستمتعة بالعالم الذي دخلته أو اكتشفته، ما الذي يثير متعتها وأشواقها؟ هي لا ترى نفسها حبيسة. هذه أفكارنا نحن سلالة برومثيوس الذي ظل مقيداً يتأسى لنفسه، هذه أفكارنا!

هي وجدتْ عالماً، عبر الحديقة والحقل والواح الورد والادغال ذوات الأزهار البرية. ووجدت هنا منضدة للكتابة ومخلوقاً محنياً يبحث في المكان نفسه، يريد أن يجد فيه ما أضاع. محنياً ومنذ الصبح على الورق والورق على المنضدة، ويريد أن يجد ما اضاعه في الحياة!

هي اكتشفت عالماً جديداً عبر العوالم التي تعرفها، اكتشفت أمريكيتها! 

غابت الفراشة، لكنها لم تغب تماماً. هي مثل العزيزات النوادر اللائي منحنا زياراتِ محبة مترعة بالفرح، وغادرن ، ولم تزل عيوننا تتابع قاماتهن وهي يختفين.. أسفاً أنني أقترب للأسى. لكن الفراشة اكتسبت عندي عديد صور وعديد إشارات. هي أثارت في دخولها ما اثارت وهي تغادر، لتظل غرفتي فارغة، أظل أنا والكتاب والمنضدة والورق.. وهو هذا العالم القفر. غرفتي صامتة صمتاً غريباً كما على فقْد:

ورقة على المنضدة

طبق فارغ

قميص معلّق وحده

ولا فراشة 

غابت. كانت صغيرة حلوة خفيفة روح، سعيدة في طيرانها وتجوالها. رقص وعافية! غابت وأبقت قصة حب، هي أهدأ والطف القصص.. كلما تذكرتها، بدت لي:

نوراً منفلتاً

شعلة صغيرة باردة

طفلة روضة فرِحة

وفراشة!

أسأل نفسي بعد غياب الفراشة، وكثير من الفراشات غابت، أهو لطف أخلاقي يجعلني اتفقد روحاً تائهة، أم هو هوس الشعراء الرماديين، شعراء الغروب والانكسار، أم هو سؤال، ليس غير سؤال من الاسئلة:

أين مضت الفراشة؟ أفي حديقة هي تختار وردتها أم يبسَ جناحُها وحملتها الريح؟ هل اسقطها مضربُ أحمق مولعٍ بالقتل، فقتل حتى الفراشة؟ أنا اليوم أكتب عنك ايتها الفراشة الغائبة والمجهولة، أنقل للعالم، ربما للكون كله، جمال زيارتك، زيارة تركت في قلبي عسلاً دافئاً، ومثلما دخلت بصمت غادرت، لا عرفت قصتها ولا لماذا دارت دورتها الاخيرة قبل أن تغادر وتتجه للنافذة البعيدة المفتوحة وتغيب. أتذكرها الآن بمحبة هانئة وباتفاق روحي وبحسرة على ما يغادرنا بدء الحب. فأين انتهت الفراشة؟

الآن، في اللحظة الاخيرة من كتابتي انتبهت:

أنا الذي من زمن اصبو إلى 

عالم من نور، بقيت مكاني.

وهي لحظة انتبهت للضوء

تركتني وغرفتي وطارت اليه. لم ترتجف شفتي وهي تدور لتمضي لكن حين غابت الفراشة الاخيرة من حياتي استقرت حولي الأبدية باهتة، وظلت عيناي مفتوحتين للكون والفراغ..