علي لفتة سعيد
الحياة ليس فيها تشابه في مكوّناتها.. فلا الماء يشبه النار ولا الغابات تشبه الصحراء، ولا السماء تشبه الأرض ولا الإنسان يشبه الحيوان.. ولذا من الطبيعي أن تكون الثقافة أيضا غير متشابهةٍ وغير متطابقةٍ من وعيٍ وتفكيرٍ إلى وعيٍ تفكيرٍ آخرين.
وبالنتيجة ثمة اختلاف وخلاف في تفسير مكوّنات العقل وتفسير حدود الإنسان مع عقله.
وللعجز في التوصيف قيل إنّه حيوان ناطق، متناسين مثلا أن الحيوان ناطقٌ أيضا، بدليل أن الأصوات التي ينطقها أو تخرج من حنجرته يفهمها الحيوان المتشابه مثله.. ولأنه ايضا مختلف في جنسه بدليل المعارك التي تصل إلى حدِّ القتل والافتراس لأفراد جنسه من أجل البحث عن القوّة تارة أو الحياة والبقاء فيها.. حتى رفع شعار البقاء للأقوى.. لا شيء في الحياة من دون اختلاف.
سواء للإنسان أو الحيوان. الاختلاف في كلّ شيء وهو سرّ الحياة وديموتها.. وقيل (لو تشابهت الأذواق لبارت السلع) لكن السؤال هنا لا يبدو ساذجًا، كيف يمكن استثمار الاختلاف لديمومة الحياة وحتى لا تبور السلع؟، وكيف للعاقل والمثقّف أن يكون خارج معادلة الفكر الحيواني في نطقه وصراعه من أجل البقاء؟، وهنا المثقّف الذي يمكن أن يكون في حركة فهمٍ للمعاني التي تؤلّف لمجموعة الاختلافات التي تتطلّبها الحياة ذاتها.
إنَّ الاجابة هنا ليست مرهونةً بوعي المثقّف وقدرته على الارتباط بالثقافة.. فالمثقف إنسانٌ أيضًا، تأتي ثقافته من حدود القراءة والاطّلاع والتفكير المرتبط بالحصيلة النهائية لما حوله من فعالياتٍ مختلفة ٍاختلافًا كليا.. فالمجتمع المرفّه لا ينظر إلى الحياة كما ينظر لها المجتمع الذي يعاني ارتباطًا في الاقتصاد الهش، ولا مثل المجتمع الذي يعاني من الاحتلال أو من حاكمٍ طاغ.
ولا مثل الذي تسوده الاختلافات الدينية وصراع الهويات.
ولا حتى مثل المجتمع الذي يريد الهدوء بعد حروب.
بمعنى أن الثقافة والوعي مرتبطتان ايضا بأماكن خارج حدود الثقافة إلى السلطة العليا، السلطة التي توفّر سبل الاختلاف إن كان هادئًا أو ضاجًا.. مرنًا أو متصلبًا.. قاهرًا أو خادمًا، ومن ثم المثقّف يعيش كفردٍ متأثّر بما حوله من مجموع الاختلافات، فالمجتمع الذي يكون جلّه من الأميين غير المجتمع الذي تسوده القراءة والاطلاع والفلسفة بمختلف مستوياتها.. وهو ايضا يتأثّر بسياسة الأحزاب مثلًا كلمّا كثرت زاد الاختلاف الذي يصل إلى حدِّ الصراع من أجل البقاء فتتحوّل الحياة إلى فعل الحيوان الذي يمارس حياته بحدود ما يمتلك من تفكيرٍ كيفية البقاء والتغلّب على الآخر حتى لو كان من جنسه.
إنَّ الاختلاف ضرورةٌ حياتية ايضا.
ليس بمفهوم (لبارت السلع) بل بمفهوم الفعل الذي يعطي الحياة ديمومتها وانفعالها نحو الأعلى، وهنا الاختلاف جزءٌ من فلسفة الوجود الذي يرتكز على قيمة السؤال (لماذا) والفلسفة قائمة على الاختلاف ايضا والخلاف جزء من التكوين التفكيري لإرضاء العقل بأهمية الاختلاف.
لكن السؤال الذي لن يكون ساذجًا ايضا.
متى يكون الاختلاف قاتلًا؟ لأن الاهمية تكمن أن أحد أهم فواعل الاختلاف هو البقاء والإبقاء على فكرةٍ تتوسّط المختلفين.
وبهذا فإن الإجابة تكمن ليست فقط في موضوعة البقاء للأقوى، ومن ثمّ ضخّ أكبر كميةٍ من الأفكار التي تلبّي طموح الفكرة وانتشارها، والسلطة وقوّتها، التفسير وتأويله. القرار وحكمته، التثقيف ومراده، السبل وكيفية انتهاجها.
بل في كيفية إقناع الآخر بتبني هذه الفكرة كونها أنسب وأفضل وأكثر حكمة من الأخرى.. وكيفية إقناع الآخر من أن استخدام كلّ الوسائل بما فيها القتل مثلا سواء بالكلمة وغسل الدماغ أو بالرصاص والاغتيال أو حتى شن الحروب.
لكن الاختلاف لم يعد رهانًا على قوّة الفكرة واستخدام الطرق من أجل بلورة قوّتها وكيفية أن تسود في المجتمع، بل هي التحوّل نحو استخدامها لتكون دليلًا على تمرّد الفكرة على الاختلاف ذاته، لتكون هي القوّة الوحيدة، باعتبار أن الاختلاف مرهونٌ بوجود فريقين أو أكثر يريدان الجدال أو النقاش للحصول على نصر، بمعنى أنه مرهونٌ بنصرٍ لا بدّ منه مهما اختلفت وسائل الوصول إلى النصر.
ولهذا فإن ما نعيشه في عالم اليوم رغم توسّع التقنيات والتفاخر العقلي من أنه في أفضل العصور، فإنه يعيش بذات تجربة الماضي الذي أسّس لوجود الحكمة الكبرى (البقاء للأقوى) وأن سلعه الخاصّة لا تتشابه مع سلع الآخرين، لكنه يريد لها أن تكون هي بذات اللون والقوّة والنضج، في حين على الآخر أن يكون ضعيفًا غير ناضجٍ لا يؤلّف خطرًا عليه.