نهاية معلّقة

ثقافة 2023/11/21
...

 حبيب السامر

حمل الطالب حقيبته المدرسية، كانت ثقيلة، غريبة، انتاب زملاؤه الفضول، وهم يحاولون أن يعرفوا سرها، وهو يمسك بها، ولم يتخلَ عنها، في عينيه تتداخل الأزمنة، وتتشعب شوارع المدينة التي تصحو على زعيق قذائف، وتنام على رشقات رصاص، وبين بيت وآخر هناك لافتات السواد، اقترب الأطفال من قرينهم وهو ينظر في عيونهم، سحب نفسا عميقا، وأطلق حسرة طويلة كادت أن تحرق غابات الحياة، والحقيبة ترشح، العيون تحاول أن تفك شفرة الغموض التي اشغلتهم، وأربكت يومياتهم، قال بصوت محزون: إنها جثة أخي الصغير! ساد المكان حزنا وغضبا، وهم يسورون الحقيبة بأجسادهم، تجمع الناس، وأعلنوا الحداد وهم يدفنون الجثة الطرية في تراب المدينة، هكذا سمعت ما دار ذات يوم عن قصة الحقيبة.

(2)
حين صدحت انشودة” وين الملايين” ذرفت ملايين العيون والقلوب الدمع، وتصاعدت الأنفاس، وانطلقت من الأروح الحسرات، هذا المشهد الحماسي ينمو كثيرا في تربة الحياة، قد تبدو الصورة هذه الأيام أكثر بشاعة، لكن الملايين صامتة، تنتظر من الآخر أن ينوب عنها في صراعها الأزلي، وقد علقت الناس آمالها في رقاب من يمنح رئاتها أوكسجين التطلع نحو غد يجيء دون ويلات ودماء تسيل، لكن هذا قد يكون في عداد المستحيل..

(3)
 اعتادت الطفلة ذات السنوات الخمس أن تقلد أختها الأكبر منها سنا بحركات وتصرفات كثيرة، كانت تنظر إليها وهي تقوم بتنفيذ واجباتها اليومية، تقتفي أثر أختها وهي تذهب صباحا إلى مدرستها القريبة من قريتها، تجلس قرب سياج المدرسة، وأحيانا تختلس النظرات وهي تدخل خفية بالقرب من صفها، تلمح عبر الباب المفتوح أختها وهي تكتب في كراسة الدرس، وتعود أدراجها إلى البيت، هكذا هي دائما، حين اشتد القصف والطفلة الصغيرة في الطريق إلى بيتها، انهالت القذائف، الشظايا تنتشر في مشهد قد لا تراه حتى في أعنف الأفلام الهوليودية، خرجت التلميذات من المدرسة، وهن يواصلن السير قرب أسيجة البيوت والعمارات المهدومة، كان صوتا خفيضا يتسرب من تحت الأنقاض، اقتربت التلميذة وزميلاتها من الصوت، كانت شريطة الرأس البيضاء لأختها على صخرة قريبة، تصاعد الأنين، وكسر الصمت
حولها.

(4)
تتناول مواقع التواصل الاجتماعي العديد من المواقف وتوقيع الإدانات وشجب الممارسات التي تتعمد بارتكابها دولة الوهم، وتتجاوز تلك العبارات الرنانة في وصفها الشعري والسردي، لكن الفعل الحقيقي يظل هو الحاسم في الميدان، على الرغم من تواجد من يقاتلون بضراوة ويتصاعد عدد الشهداء، هناك أقلام صمتت، واختارت اللوذ خلف الشاشات الزرقاء بمواقف أصابها صقيع التبلد، هذا امتحان حقيقي لرسم دلالات الشهامة وقول الحق في وجه الظلم المتجدد والزاحف نحو  الحرية الحقة!

(5)
حين قرأ الشاعر قصيدته ذات مرة تحت وابل الرصاص، نزلت قذيفة عمياء لتغتاله وهو على المنصة، تشابكت الأكف والكلمات لتشّكل قبة حديدية تطرد القذيفة خارج مدار الشعر.

(6)
في قصته الأخيرة، بزغت الشمس بمظلتها البرتقالية، جلست العائلة لتتناول وجبتها تحت ظلال بستان في مدينة حاول الأغراب تدمير بسمتها، ظلت النهاية مفتوحة على أحداث أخرى.