جميل حسين
«أنا في وهج النار الأزلية لأقترب منك أيتها الأرض البعيدة..» هكذا يختتم عزيز بطل رواية «غريب في لندن» للكاتب جمال حيدر٬ الصادرة حديثاً عن دار المفكر للكتب في بغداد٬ منادياً العراق البعيد٬ ويصادف حادث الانتحار في التاسع من نيسان عام 2003، وهو اليوم التي ارتبط ذهنياً وفكرياً باحتلال العراق.
باعتقادي أن مفردات الرواية صفت بعناية كحجارة المعبد، ليجد المتلقي ذاته بين صفحاتها، يرى عبرها أحلامه، وانكساراته، وخسائره. ومع كل فصل هناك عبارة تمثل عنواناً له٬ وهي بمثابة المفتاح السري لما سيأتي من أحداث وحوارات وانعطافات سردية.
حملت شخصية البطل (عزيز) تميمة الخوف من الفقدان٬ فقدان وطن وناسه وتفاصيل حياتهم٬ وبالرغم من بعد المسافات إلا أن ذلك الوطن ترسخ عميقاً في الذات٬ كأنه عجن مع أرواح العراقيين أينما تبعثروا أو بعثرتهم المنافي٬ بعدما عجزت تماماً تلك المدن أن تطفئ ذاكرتهم الملتهبة٬ وتشتت هويتهم.
في أعوام ماضية من ذلك اليوم التي اسدل عزيز الستار على الفصل الأخير من حياته٬ تناسلت زنزانات ومعتقلات ومراكز التحقيق على امتداد الوطن٬ وصوب القتلة والجلادين فوهات بنادقهم نحو صدور الأبرياء٬ وأصبحت للكلمة معنى آخر بإمكانها أن تؤدي بمطلقها إلى منصات الموت٬ غير أن الحرية كانت الهم الأكبر للعراقيين. في ظل هذه المناخات فر (عزيز) من العراق إثر ملاحقات وتحقيقات وعذابات٬ حاول تذوق طعم الحرية ونكهتها٬ إلا أن الماضي ظل يلاحقه كقدر محتوم في كل تفاصيل حياته. يصل إلى لندن، بعد رحلة طويلة وشاقة، عبر خلالها أنهاراً وبحاراً ومدناً لم ير منها سوى أضوائها اللامعة من بعيد. اجتاز ودياناً وجبالاً، وطرقاً وعرة مفروشة بالوحدة. مصاحباً وجوهاً قلقة ومتسائلة على الدوام، يتكور في نفوسها خوف دفين.
اختبأت نهارات كاملة في كهوف الجبال الجليدية هرباً من دوريات شرطة الحدود.
يرتبط البطل بعلاقة عشق مع (سوزان) الفتاة الإنكليزية لتتمثل العلاقة بينهما في شكل مغاير لأغلب العلاقات الإنسانية٬ إنها علاقة توشج بين المنفي من بلاده والمنفية في بلادها٬ مؤكداً البيت الشعري لامرؤ القيس: (أجارتنا إِنا غريبان ها هُنا/ كُل غريبٍ لِلغريب نسيب). يكتشف (عزيز) عن طريق المصادفة أن حبيبته فتاة ليل ليسكنه الوجع مرة أخرى.
تغرق الرواية في تفاصيل الحياة اللندنية اليومية التي يعيشها عزيز٬ يوميات تتوزع بين القلق والاكتشاف والرفض٬ إذ يشيد البطل الأسوار العالية بينه وبين المجتمع٬ وهي صورة تبدو مألوفة لدى الكثير ممن اقتلع من أرضه عنوة٬ وظل يرنو إليها٬ حاملاً ما تبقى له من ذكريات بين كفين يرتجفان برداً وهلعاً وغربة.
ينقلنا السرد إلى فندق صغير في لندن يقطنه عزيز٬ تحديداً في حي (كنغز كروس) الذي يتوسط العاصمة البريطانية٬ وتقع على طرف فيه محطة القطارات الآتية من الشمال٬ مشاركاً فيه مجموعة من الإنكلير والأجانب٬ لينقل لنا الكاتب مقطعاً طولياً للمجتمع بكل تلاوينه الجغرافية والروحية والاجتماعية٬ هناك العجوز العنصرية٬ والمدمن بفطنة حازمة من الرأسمالية المهيمنة على الحياة٬ والهندي الباحث عن عيش رغيد٬ واللاجئ البوسني الهرب من الحرب٬ وشاب من أصول أفريقية يمتلك رأياً واضحا، لا يحيد عنه من الاستعمار الأوروبي في أفريقيا وما خلفه من تبعيات ثقافية واقتصادية وسياسية لا تزال تأثيراتها السلبية ساطعة لغاية اليوم.
ترسم لنا الرواية صور الوطن حين يتعرض لانتكاسة٬ حيث تستعرض الكثير من الأحداث التي شهدها٬ تلك التي شكلت ملامحه على مدى عقود٬ ابتداء من انقلاب 8 شباط 1963 ولغاية سقوط النظام الدكتاتوي 2003 مروراً بالحرب العراقية - الإيرانية٬ وحملات القمع والاضطهاد وتكميم الأفواه ووصد هامش الحريات بالشمع الأحمر٬ التي طالت شرائح العراقيين على مختلف منابتهم٬ والحرب التي تلت تحرير الكويت٬ والانتفاضة الشعبية 1991 والحصار الاقتصادي الذي تعرض له الشعب العراقي حصراً٬ لتختتم بانهيار النظام المدوي وسقوطه مؤسساته الأمنية والمخابراتية المريع وهروب أزلامها.
تقع الرواية في 162 صفحة من القطع الوسط.