الماركسيَّةُ والأدب

ثقافة 2023/11/22
...

 لوك دنْ

 ترجمة: عبود الجابري

لا أحد يدرسُ الأدب بلا سببٍ، وغالبًا ما يكون من المفيد محاولة وضعِ منهج نظري مجرَّد في الأسبابِ الشخصيَّة الأكثر ذاتيَّة لتطوير المنهجِ المذكور في المقام الأوَّل. باختصارٍ، كان ماركس قارئا نهما بشكل استثنائيٍّ،  وقام ماركس بعدةِ محاولاتٍ مبكرة للكتابة الأدبيَّة عندما كان شابا، بما في ذلك رواية غير مكتملة ونصوصٌ شعريَّة كثيرة.

كما أنَّهُ خلَّف وراءَهُ  العديدَ من المشاريعِ المقترحةِ حولَ موضوعاتٍ أدبيَّة أو موضوعاتٍ أدبيةٍ غير مكتملةٍ وقتَ وفاته: أحدها عن نظريةِ الفنِّ والثقافةِ والآخر عن رواياتِ بلزاك. ومع ذلك، كما قال تيري إيجلتون، فإنَّ الارتباطَ المباشرَ بالموضوعاتِ الأدبية في أعمال ماركس و فريدريك إنجلز، ضعيفٌ إلى حدٍّ ما على أرضِ الواقع.


الأحوال الاجتماعية للأدب

واحدةٌ من الأفكارِ الماركسيَّة الأساسيَّة التي كان لها تأثيرٌ على تنظيرِ الأدب منذ ذلك الحين هي فكرةُ أنَّ العمل الفني هو، إلى حدٍّ كبير، نتاج الظروف التاريخية التي تنتجُه. إنَّ الفهمَ الكامل لهذا العمل الفنيِّ سيتضمَّنُ تحليلاً لتلك الظروف.

من المهمِّ بشكلٍ خاص في سياقِ العمل الفنيِّ أن يُنظرَ إليهِ على أنَّهُ نتاج العمل، فهو تتويجٌ لعمليةٍ إنتاجية، وكما يؤدّي نوعٌ معين من الوضعِ التاريخيّ إلى ظهور صناعاتٍ معيّنة، وأنماطٍ معيّنة من العمل، وتوزيع الموارد، فإنَّ نوعًا معيّنًا من الوضع التاريخيِّ يؤدّي إلى ظهورِ أنواعٍ معينة من الفن.

إحدى الطرقِ التي يتجلّى بها ذلك هي ما يُسمّى بـ “علم اجتماع” الأدب، والذي يتضمَّنُ محاولة دراسة الظروف الاجتماعية التي تدخلُ في إنتاج العمل. وتشملُ هذه، على سبيلِ المثال لا الحصر، التركيبةَ السكانية الاجتماعية لكل من الكتّاب والقرّاء، ومعرفةَ القراءة والكتابة، والقيودَ الاقتصاديةَ والاجتماعية المفروضةَ على الناشرين، وتحديدَ الذوق. ومن المهمِّ التمييزُ بين هذا التخصّصِ والنقدِ الماركسيِّ، الذي يميلُ إلى محاولةِ فهمِ الأعمال الفنية نفسِها في ضوء هذه الرؤى حول المجتمع.

ومن الأفكارِ الأخرى ذات الصلةِ فكرةُ أنَّ الظروفَ التاريخية لا تنتج أعمالًا فنيَّةً فحسبْ، بل تنتجُ أيضًا أيديولوجيات. إنَّ مصطلح “الأيديولوجيا” مصطلحٌ مشحونٌ في سياقِ الفكر الماركسيّ، ولكنْ يمكننا أن نفكِّرَ في الأيديولوجياتِ في الوقت الحالي ببساطةٍ باعتبارها الطريقةَ التي يتصوَّر بها الناسُ المجتمعاتِ التي يعيشون فيها. لا يلزم أن يتمَّ تشكيلُ وجهات نظرٍ عالميةٍ متماسكةٍ بشكلٍ كامل - في الواقع، تشكِّلُ الاستجاباتُ العاطفية والتوجّهات الغريزيةُ نفسها عناصرَ من الأيديولوجيا.


الأدبُ باعتبارهِ نتاجاً للقوى المادّية

وكما لاحظنا من قبل، فإنَّ النظرةَ الماركسيةَ للأدبِ تؤكّد على العلاقة بين الفنِّ والسياق الاجتماعيِّ الذي ينتجُه. هذا التركيز على “المادَّة” يتجاوزُ الادّعاءَ بالفنِّ ويمتدُّ إلى الادِّعاء بالبشرِ وحالاتهم النفسية.

في الأيديولوجيا الألمانية، نصُّ ماركس الذي يركّز على العلاقةِ بين الأفكار والقوى المادّية بشكلٍ واضح، ويتمُّ طرح الفكرةِ في الفقرةِ التالية:

«إنَّ إنتاجَ الأفكارَ والمفاهيم والوعي يتشابكُ بشكلٍ مباشر في المقام الأوَّلِ مع التواصل المادي للإنسان، لغةُ الحياةِ الواقعيَّة. إنَّ التصوُّرَ والتفكيرَ والاتِّصال الروحيَّ بين البشر يظهرُ هنا كتدفق مباشر للسلوكِ المادِّي للرجال.. نحنُ لا ننطلق ممّا يقوله الناس، أو يتخيَّلونه، أو يتصوَّرونه، ولا ممّا يوصفُ به الناس، أو يفكِّرون فيه، أو يتخيَّلونه، أو يتصورونه، من أجل الوصول إلى الإنسان الجسدي؛ بل ننطلقُ من الإنسانِ النشِطِ حقًّا… الوعيُ لا يحدّدُ الحياةَ: الحياةُ تحدِّدُ الوعي.ومن الجدير بالذكر أن الأيديولوجيا ليست محايدةً أبدًا، بل وظيفتها هي إضفاءُ الشرعية على الهياكل القائمةِ للتنظيم السياسي والاجتماعيِّ. الفنُ جزءٌ من هذا “البنية الفوقية”. إنَّه أداةٌ لتشكيل الأيديولوجيا.

قد نعتقد أنَّ ماركس يقدِّم إحساسًا أساسيًا بما يتضمَّنه النقدُ الماركسي، أي النمط. لأنَّ الأعمال الفنيَّة لها رمزيَّتُها الخاصَّة، وبنيتها الخاصَّة، وعلاقتُها المباشرة وغير المباشرة بالعوالم الاجتماعية التي تحيطُ بها. وبتأسيسها، ليس هناك مجالٌ لتحليلِ المجتمعات التي نشأت فيها. وبدلاً من ذلك، يجب على المرء أن يتحرَّك باستمرار ذهابًا وإيابًا بين العمل الأدبي و”العوالمِ الأيديولوجية التي يسكنها” (كما يقول إيجلتون).

قد نود أن نقول إن هناك شيئًا ثالثًا متميزًا يجب أخذه بعين الاعتبار: سيكولوجيةُ الكاتب نفسه. ألا تعبِّرُ الأعمال الفنية غالبًا عن شيءٍ ما مرتبطٍ بأولئك الذين يبدعونها؟ أليس من المحتملِ أن تكونَ معرفةُ عقلِ الفنان أمرًا مهمًّا، حتى لو لم نرغبْ في الإشارةِ إلى أنَّ تحليل العمل الأدبي هو مجرَّد محاولةٍ لمعرفةِ المقصود منه؟ في حين أنَّه يمكنُنا بالتأكيد، بل ويجبُ علينا، أن نفكِّر في الكاتب وكذلك في كتاباتِه، إلا أنَّه من المهمِّ أن نضع في اعتبارنا أنَّه من ضمن الآثار المترتبة على هذا المنظور الماركسي أنَّ نفسيَّة المؤلف هي أيضًا نتاج مجتمعاتٍ في لحظة تاريخيةٍ معينة. . 


الأدب والأيديولوجية  

أحَدُ الأشياء التي يؤكّدُ عليها “إيجلتون” عند كتابتِه عن النقد الأدبي الماركسيِّ هو أنَّ الماركسية أقلَّ اهتمامًا بالتمييز بين العملِ الفنيِّ والعمليات الإنتاجية التي تحدّد إبداعه، من اهتمامِها بالاعتراف بالطرُقِ التي يتم بها توحيدُهما. في الواقع، هناك شيءٌ واحد يجب أن نؤكّد عليه، وهو أنَّ التقليد الماركسيَّ، وبالتأكيد أشهر مفكريه وأهمهم، لا يتبنّى وجهة نظر مفادها أن الفنَّ نفسه هو على الإطلاق انعكاس شفّافٌ للظروف الاجتماعية.

في الواقع، فإن قيمة الفن، والنقد الفني، والنظرية الأدبية، وما إلى ذلك، ترجع جزئيًا إلى كون الفن واحدًا من أكثر مواقعِ الأيديولوجيا تطورًا وتعقيدًا، وبالتالي أكثرها إضاءةً. عند هذه النقطة، قد يكون من المفيد أن نعود خطوة إلى الوراء ونسألُ: ما هي الإيديولوجيا في الواقع؟ تميل الأيديولوجيا، بمعناها غير الماركسيِّ (أو ليس بالضرورة الماركسي)، إلى الإشارة إلى العقيدة السياسية، وهي مجموعةٌ من الوصفاتِ الواضحة التي تحمل بعض الأهمية السياسية. في حين أن الأيديولوجيا في السياق الماركسيِّ قد لا يتمُّ تعريفها بشكل مفيد من حيث المعتقدات السياسية أو ما شابه ذلك. بالأحرى، الأيديولوجيا هي مجموعةٌ أوسع من الأشياء - القيم، والأفكار، والأحكام، والاستجابات العاطفية، وربّما حتى ردود الفعل المكبوتة أو اللّاواعية - التي يتمُّ من خلالها تصور المجتمع، والتي يتم من خلالها إخفاءُ البنيةِ الحقيقية للمجتمع.

يلاحظ “إيجلتون” أنَّ الفنَّ، في المفهوم الماركسيِّ، يمكنُ أن يرتبطَ بالأيديولوجيا وفقَ موقفَيْن متطرِّفيْن. أحدهما هو الموقفُ الذي يقول إنَّ الأدب، على وجهِ الخصوص، هو نوعٌ من الشكل الفني للأيديولوجيا نفسها - وهو ما ينطبقُ على الأدبِ حقًا. وهذا يعني أنَّ الأدبَ هو تصور فني للمجتمع نفسه.

هناك موقف آخر، وهو في الواقع عكس الموقف الأول، يرى أن الأدبَ يرقى إلى رفضِ الأيديولوجيا (أو على الأقل، هذا ما ينطوي عليه الفن الجيد حقًا). إذنْ هذا هو الموقف الذي أتخذه “إرنست فيشر” في كتابه “الفن ضد الأيديولوجيا”، ومن وجهة النظر هذه، فإن الأدب يستحق الاهتمام بشكل خاص بقدر ما يزودنا ببدائل “الأيديولوجيا».

وهناك موقف آخر يتبناه المنظر الماركسي الفرنسي الشهير “لويس ألتوسير”، وهو أن الفن والأدب ليسا في حد ذاتهما أيديولوجيا، بل يمثلان تجربة أيديولوجية معينة، والتي يمكن أن تكون أكثر أو أقل راديكالية. 

لوكْ دِنْ: كاتب بريطاني متخصص في تاريخ الفلسفة، وميتافيزيقا العقل، والنظرية الاجتماعية في جامعة أكسفورد 

المصدر: The Collector Magazine