الحقيقةُ بوصفها حذاءً مستعملًا

ثقافة 2023/11/22
...

أحمد عبد الحسين




واهمٌ مَنْ يطلب الحقيقة من إنسان. لأنّ أشياءً مغرقةً في الصدفة والاعتباط والعمى هي التي تخلق المواقف. ومنها هوامات الطفولة في الصغر وخفايا اللاوعي في الكبر، مع كثيرٍ وكثيرٍ من العاطفة والوجدان، اللذين هما في آخر الأمر مطبّان صناعيان يعثر فيهما التفكير. ولهذا فنحن جميعنا ننطق عن الهوى.

وهنا بالذات تكمن قوّة الفلسفة وضعفها في آن.


قوّتها: أنها الحقل الوحيد الذي أخذ على عاتقه المهمة الأكبر، وهي ادّعاء إعمال العقل وحده لا شريك له، نابذاً الأحكام المسبقة التي ينتجها اللاوعي أو الجذبة النفسيّة أو الشطح العرفاني، الذي يتشبه بالتفكير، فالعرفان يأخذ من المعرفة شكلها وهيأتها، لكنه يضرب عميقاً في أرض الهوى والرغائب.

وضعفها: أنها هي نفسها وصلتْ إلى التحلّل من مهمتها تلك، حين ظهر أنْ لا حقائق كبرى فيها، وأن وظيفة العقل وهو يباشر عمله وظيفة مزدوجة من إثبات ونفي وإقرار وإنكار، وأنّنا إذا استقصينا الحقائق، التي لا يرقى لها شكّ أبداً فلن نظفر بأكثر من البديهات الرياضية والفيزيائية. أما المفاهيم فهي مواضع نزاع عقليّ أبديّ.

الحقيقة إعدادٌ ثانويّ

لأجل ذلك صارت الحقيقة عند نيتشه إعداداً لا جوهراً، أداة وليستْ مبتغى. وحين ترى مَنْ يبحث عن الحقيقة، فإنما يبحث عنها ليرفعها حجة ودليلاً ورصيداً، لدعم وترميم وإسناد موقفه الذي صُنع هناك، في أرض الرغائب، وهو قد صُنع على الأغلب بيدين من صدفةٍ واعتباط. وإذا أمعنّا النظر جيداً فإن كل الحقائق التي نعرفها إنما هي في خدمة هوانا.

قرون من التفكير صنعتْ للإنسان حقائقَ كثيرة، وصارتْ هذه الحقائق متاحة للاستخدام، فهو يوردها في المورد الذي يحبّ، لا حباً بالحقيقة “التي هي أغلى من أفلاطون!” ولكنْ لجعل هواي متماسكاً مبرراً وقابلاً، لأن أجهر به وأعلنه من دون أن أبدو مخطئاً أو متناقضاً. وفرة الحقائق تشبه تماماً وفرة الأخلاق التي قال عنها باتاي: “الأخلاق كثيرة وتملأ كلّ شيء”.

ولهذا فإن صاحب كل موقف سيجد أن بمقدوره أن يأخذ من هذه الحقائق ما يشتهي ليجعل منها دعامات تسند موقفه، ومثله غريمه الذي اتخذ موقفاً مضاداً له تماماً لن تعوزه حقائق، تجعل موقفه متماسكاً هو الآخر. فمخزن الحقائق كبير وفيه من كلّ شيء، وحتى الحقائق المستخدمة سابقاً قابلة للاستعمال مرة واثنتين وثلاثاً. الحقائق أحذية لا تبلى بكثرة الاستعمال.

مخزن الأحذية

في حدثٍ جللٍ كالإبادة الجماعية التي تجري في غزة هذه الأيام، يُسمع صوت فيلسوف كبير مثل هابرماس هامساً “والهمس علامة اليقين كما قال أبو العلاء المعرّي”. هذا الصوت الخافت يصدر عن هوامات وهواجس طالعة من أرض طفولته، من منبت الهوى، لكنه يسند هذا المعمار الرغائبيّ بدعامة من حقائقه العقلية والأخلاقية. فمثلاً هو يشدّد على “إعطاء الحق لإسرائيل بالانتقام من هؤلاء، الذين يريدون القضاء على الحياة اليهودية”، لكنه يشترط أن تكون هذه الإبادة “مترافقة مع نيّة إسرائيل في إحلال السلام مستقبلاً”! ثم يخلص شيخ الفلاسفة الأحياء إلى هذه النتيجة المدعمة بالحقائق، وهي نتيجة مهولة وإرهابية: “إن معايير الحكم تتدهور تماماً عندما تنسب نوايا الإبادة الجماعية، إلى تصرفات إسرائيل”. أي أن المنطق كله سينهار، والعقل سيتقهقر، ونظام العالم يتداعى ومعايير الأحكام تتهاوى، إذا ما قلنا أن ما تفعله إسرائيل هو إبادة جماعية.

هذه فلسفة أيضاً، وهذا قول لفيلسوف ينطق عن هواه ككلّ بني آدم، واحتاج إلى حقائق لدعم هذا الهوى فوجدها وأعطاها لنا. ولأنّ الحقائق أحذية فقد اختار هابرماس حذاءه من مخزن الحقائق المترامي الأطراف.

والآن كيف نتعقّل هذا؟

والآن، كيف يمكن لي ـ باعتباري قارئاً لهابرماس ـ أنْ أتعقّل موقفه المساند لإسرائيل في كل المناسبات التي تكلّم فيها عن قضية فلسطين؟

هابرماس ساند الكيان المحتلّ أثناء العدوان على غزة سنة 2015 . ثم ساند الكيان ضدّ مواطنه “غونتر غراس”، الذي كتب قصيدته الشهيرة “ما يجب أن يقال” منتقداً فيها الكيان، وداعياً إلى تخليص ألمانيا من ذكرى المحرقة. وها هو اليوم يساند الكيان وهو يحرق الأطفال والنساء في غزة.

لطالما قُدّم مشروع هابرماس الفلسفيّ بديلاً عقلانياً و”نضالياً اجتماعياً” لكل مشاريع ما بعد البنيويّة، لكني لا أجد في مواقفه تجاه الكيان رائحة عقلانية ولا “ديمقراطية” ولا “تواصلية”، لأنه يحرص هو قبل غيره على ردّ هذه المواقف إلى أصل شخصيّ، إلى التكفير عن هوى طفوليّ. 

في حواره مع “هارتس”  بعد مجازر غزة 2015 قال ما مؤداه “لا ينبغي لأبناء جيلي الحكم على إسرائيل”. فمنع نفسه ومنع كل أبناء جيله من انتقاد الكيان المحتلّ. ثم في تسفيهه لقصيدة غونتر غراس كتب بعد أن وصم غراس بالحمق بأن “كلام غراس غير مقبول من الجيل الذي ننتمي إليه أنا وغراس”. واليوم في مساندته للمجازر يعيد ذكرى مقولة زملائه في مدرسة فرانكفورت، الذين كتبوا في بيان لهم سنة 1949 إن “إسرائيل الملاذ الطبيعي لكلّ الناجين من الهولوكوست”.

شعور بالذنب عظيم يطارد هابرماس، ويجعله يرى بأنه هو وجيله غير مؤهلين لأعمال عقولهم في كل واقعة تكون إسرائيل طرفاً فيها. فالغلبة تكون حينها للمحرقة، التي تطاردهم ولا يجدون خلاصاً منها إلا بمساندة أبدية للقوم، الذين أُحرقوا حين كان هابرماس وجيله شهوداً.

والحقيقة أن هابرماس لم يكن شاهداً فقط. كان في شبابه عضواً في “شباب هتلر” ـ تنظيم يشبه فدائيي صدام بالضبط كما كان أبوه نازياً، ما يجعل ذنبه أكبر ولا يمكن غفرانه إلا بعهد مساندة أبديّ للضحايا الذين كان هو وعائلته في الجهة المضادة لهم.

كوجيتو المحرقة

ليس أمراً عقلانياً أن يتوقف الزمن عند فيلسوف في نقطة تاريخية، ويتوقف تبعاً لذلك منسوب نقده وتقييمه وعقلانيته عند حادثة محددة، مهما كانت تحمل من ألم ومهما رسمتْ ندوباً في روحه وشعوراً متعاظماً بالذنب.

ليس هابرماس وحده. بل كثير من مفكري أوروبا ممن عايش المحرقة؛ يتعاطى وإياها بوصفها مفهوماً لا حادثة، باعتبارها كوجيتو تتأسس عليه المقولات وليست مجرد واقعة مؤلمة. وهنا ترتدّ الفلسفة هنا إلى أصلها الشخصي “أو الجيليّ كما عند هابرماس” وهو أصل هووي رغائبي لتصبح هذه الواقعة السياسية المؤلمة مقياساً لكلّ الوقائع التي تليها إلى انقضاء الدهور.

الأمر يذكرني بمقولة ماركس عن “استخدام العقل بطريقة غير عقلانية”. لأنّ هذه الشيزوفرينيا تضرب بعمق في جوهر العقلانية، وتجعل من الحقيقة حذاء قديماً ملطخاً بغائط الفلاسفة!