الفكاهة السوداء والفنتازيا... في مسرحيَّة (حياة سعيدة)

ثقافة 2023/11/22
...

رضا المحمداوي



في مسرحيتِهِ الجديدة (حياة سعيدة) التي شاهدنا عرضها المسرحي على خشبة المسرح الوطني بإخراج: كاظم نصار بدءاً من يوم 13/ 11/ 2023، يواصل المؤلف المسرحي المثابر والدؤوب علي عبد النبي الزيدي حضورَهُ المسرحي.

وقد يوصف كاتبنا المسرحي نتيجة لهذا الحضور المسرحي المتكرر والمتوّج بالجوائز بأنه غزير الإنتاج وبأعمال متلاحقة تشهد عناوينها في المسارح العراقيَّة والعربية على حد سواء، إذ سبق لـ(علي عبد النبي) قد جاء بكادرِهِ الفني من الناصرية إلى بغداد لعرض مسرحية (صفصاف) التي شهدها مسرح الرشيد في شهر أيلول الماضي ضمن الموسم المسرحي الحالي، جامعاً تفاحتي التأليف والإخراج معاً في يد واحدة، وإن شاء أن يخفّف من وقع توصيف أو عنوان (الإخراج) المعروف والمتداول في عملِهِ واستبدلهُ بمصطلح (دراماتورج) الذي دخل حياتنا المسرحية في الآونة الأخيرة بمختلف المعاني والدلالات التي قد تبدو أحياناً غير واضحة الحدود أو المعالم.

إلاّ أنَّ تعدد تلك الأعمال على صعيد التأليف لـ(علي عبد النبي) لا يعني بالمقابل الاستسهال أو الاستهانة بعملية تقديم العمل الدرامي بقدر ما تؤكد مثابرة مؤلفنا ودأبه المتواصل لا سيِّما بعد أن ترك بَصْمَتَهُ المسرحية الشخصية بشكل بارز وواضح.

فرضية درامية مشاكسة

وفي (حياة سعيدة) يؤكد(علي..) هذه الخصوصية بواسطة نص مشاكس يوظف فيه موقفاً أو حدثاً لعروسين في ليلة زفافهما يبحثان عن غرفة لإتمام ليلة الزفاف لكنَّهُ يقدّمهُ بإثارة واضحة مع إشارات إيروتيكية موحية وغير مباشرة طغتْ على الحدث الرئيس للمسرحية القائم أساساً من أجل إتمام الفعل التقليدي والمعروف في مثل تلك الليلة لكنها تصبح مهمة شاقة وعسيرة للعروسين (فرحان: حسن هادي) و(فرحانة: لبوة عرب)!!

يوظف المؤلف هذا الموقف ليبني عليه فنتازيا مسرحية صادمة، تلك الفنتازيا التي بدأتْ مع العروسين اللذين يبحثان عن غرفة أو سرير من أجل إتمام مراسيم تلك الليلة، ويزداد الموقف غرابة حين يدخلان إلى بيت أو غرفة أحد الشباب (الممثل علاء قحطان) الذي يستعد هو الآخر لإتمام ليلة زفافه وينتظر وصول عروسه في أيِّ لحظة!

وهكذا نصل إلى (الفرضية الدرامية) التي أسّس لها المؤلف وسعى إلى تأثيثها بحكاية ثلاثية الأطراف (العريس والعروس وصاحب البيت) منبثقة من ذلك الموقف الفنتازي الذي ظل يدور في غرفة النوم فقط طوال ساعة كاملة وهو زمن عرض المسرحية.

لكنَّ تلك الفنتازيا سرعان ما تنزلق إلى فكاهة سوداء تنزّ ألماً وزاخرة بالسخرية المُرَّة وهي تستشرف مصير الأجيال المقبلة ومستقبلها من أبناء وأحفاد العروسين اللذين لمْ يكملا تفاصيل ليلة الزفاف بعد! ذلك المصير أو المستقبل الذي يبدو محفوفاً بالمخاطر وسط أجواء الحرب وقذائف الموت التي تنهال على الحياة اليومية -من خارج البيت- وتسلب منها طمأنينتها وهدوءَها حيث يتم استذكار أشكال وأساليب العنف وعمليات القتل وانتشار الملثمين وبروز الأسباب والدوافع للهجرة خارج العراق وغيرها من التحوّلات السياسية التي ألقتْ بثقلها على الواقع العراقي المأزوم والحياة الاجتماعية المضطربة.

معالجة إخراجية ذكية 

وجاءتْ المعالجة الإخراجية والرؤية الفنية للمخرج القدير كاظم نصار لتدعم ذلك البناء الدرامي الفنتازي ليقدِّمهُ بغرائبية أليفة كانت أقرب إلى الواقع بل بدتْ وكأنَّها قطعة مجتزأة منهُ، ولمْ نستهجنْ مجرياتها وتتابع مواقفها وتطوراتها، وذلك من خلال الاشتغال الإخراجي على أداء الممثلين الذين برعوا واجتهدوا في تقديم ذلك الأسلوب الفني الحيوي المتدفق.

فقد استثمر المخرج ذلك الأساس الموجود في النص ليبني عليه ويشدُّ من أزرِهِ باجتهاد فني قائم على الأسلوب الفكاهي صاحب المحمول الجاد والهادف وبنهج حيوي ومرن فرض سطوتَهُ على العرض المسرحي مِن بدايتهِ حتى اللحظات الأخيرة منه، ومن هنا جاء توظيف الحوارات والجُمل والعبارات باللهجة الشعبية الدارجة داخل متن النص المكتوب باللغة الفصحى منسجماً ومتلائماً مع إحساس المفارقة الدرامية الساخرة التي حَفَلَ بها النص بدءاً من عنوان المسرحية وأسماء الشخصيات (فرحان وفرحانة) وأسماء الأولاد والأحفاد المفترضين (ابتسام وبسمة وبسام) التي توحي بالفرح والارتياح لكن مصائر تلك الشخصيات كانت تدور في عوالم الموت والقسوة والعنف، وحتى مفردات اللغة الفصحى لمْ تخلُ من هذا التهكم مثل التوقف عند معنى (الكنف) أو كلمة (المحك) وغيرها.

مِن سمات مخرجنا (كاظم نصار) أنَّهُ يعرف ماذا يريد من عرضِهِ المسرحي ويتعامل معه بوعي تام مع الحرص الشديد والشعور بضرورة الاشتباك مع مجريات الواقع اليومي والاضطراب الأمني الذي يلقي بظلاله على المواطن العراقي الأعزل المُسالم الذي يبحث عن الملاذ الآمن.

وهذا الوعي المُتقدّم والجهد الإخراجي الدقيق كانا دائماً يقودان (كاظم) إلى عرض فني يتسّم بالدقة والنضج الفني.

ومن فنتازيا (علي عبد النبي الزيدي) والمعالجة الإخراجية الذكية للمخرج (كاظم نصار) استمدَّ العرض المسرحي (حياة سعيدة) نجاحَهُ الفني بواسطة تلك الحيوية والإيقاع المسرحي المتسارع الذي لمْ يفسحْ المجال لأيِّ فراغات بأن تتسلل إلى مفاصله ومشاهده، حتى أننا لمْ نلحظْ الحضور الواضح لفواصل الموسيقى داخل بنية العرض، لكننا بالمقابل افتقدنا المؤثرات الصوتية الخارجية التي تذكِّرنا بأجواء الحرب مثل أصوات القصف والرصاص والانفجارات وغيرها..

لقد شغلتْ الحوارات المتتالية والتدفق الحيوي للأداء كل مساحة العرض المسرحي ومن هنا جاء الثلاثي الفني (حسن هادي ولبوة عرب وعلاء قحطان) بأداء فني منسجم ومتناغم في ما بينهم من حيث التفاعل والمواءمة في الأداء الصوتي والحركي، وملؤوا مساحة المسرح بالحركة والأداء الحيوي والإيقاع المتدفق والمرسوم بدقة من قبل المخرج.

لكن الشخصية التي أدتها الممثلة (هديل سعد) في حضورها وغيابها، وظهورها واختفائها، وفي دخولها وخروجها، وبقامتها الفارعة وتنورتها القصيرة وإيقاع صوت كعب حذائها على المسرح لمْ تتوضحْ لنا وظيفتها أو دلالة أفعالها المساعدة مع الممثلين ولمْ نتعرفْ على هويتها الشخصية (مَنْ هي أو مَنْ تكون؟).

وكان الديكور لدراماتورج العرض سعد عزيز عبد الصاحب متقشفاً لكنه جاء ذكياً في توزيعه للقطع المحدودة الثابتة المستخدمة مثل السرير على يسار المسرح ومائدة الطعام على اليمين وفي عمق المسرح كان باب الغرفة والجدران الساندة.

ولا بدَّ أخيراً من الإشارة إلى أنَّ هذا العرض الممتع لمْ يكنْ من اللائق به أن تحصرَهُ إدارة السينما والمسرح في تلك المساحة الصغيرة الخانقة والمقتطعة من خشبة المسرح الوطني، فالكراسي البلاستيكية المتحركة المخصصة للجمهور والتي تمَّ وضعها وتوزيعها على خشبة المسرح نفسها قد أربكتْ العرض المسرحي بتداخل حدودها مع المساحة الخاصة للعرض المسرحي؟!