السياسات البيئيَّة الألمانيَّة.. أنموذجٌ لمخططٍ مستقبلي للعراق
لقمان عبد الرحيم الفيلي
الاستدامة البيئيَّة هي ضرورة عالميَّة تتجاوز الحدود والجنسيات، وبينما تتصارع البلدان في جميع أنحاء العالم مع التحديات التي يفرضها تغير المناخ والتدهور البيئي، برزت بعض الدول كرائدة في السعي لتحقيق مستقبل أكثر خضرة واستدامة، وتعد ألمانيا مثالا بارزاً لهذه الدولة، إذ تتميز بسياساتها البيئيَّة الطموحة والتزامها الثابت بالاستدامة
ومن خلال دراسة الرحلة البيئيَّة لألمانيا، يمكن للمرء أنْ يكتشفَ دروساً قيّمة تحملُ القدرة على إلهام وتوجيه البلدان التي تواجه تحدياتها البيئيَّة الفريدة.
ويتناول هذا المقال السياسات البيئيَّة التي تنتهجها ألمانيا، والدروس الأساسيَّة التي يمكن للعراق، الذي يعاني من تحديات بيئيَّة كبيرة، وهو خامس أكثر دولة تأثراً بالتغييرات المناخيَّة في العالم، أنْ يتعلمَ منها ويستفيدَ منها لصياغة مسارٍ أكثر استدامة.
المقاربات الخمسة للتحول البيئي في ألمانيا
لم يحدث التحول البيئي في ألمانيا بين عشيَّة وضحاها، بل كان نتيجة عقودٍ من صنع السياسات الدؤوبة، والمشاركة العامَّة، والمبادرات الاستباقيَّة التي تهدفُ إلى تخفيف تداعيات التحديات البيئيَّة، ويمكن إيجاز العناصر الأساس التي حددت طريق ألمانيا لتصبح رائدة بيئيَّة عالميَّة بالآتي:
1 - تحول أنموذجي إنرجيويندي (Energiewende):
في قلب السياسات البيئيَّة الألمانيَّة يكمن مصطلح Energiewende، وهو المصطلح الذي يترجم إلى “تحول الطاقة”.
تهدفُ هذه السياسة الرائدة، التي أُطلقت في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلى تحويل ألمانيا من الوقود الأحفوري التقليدي إلى مصادر الطاقة المتجددة، ولقد أصبح برنامج “تحول الطاقة” إلى حجر الزاوية في التزام ألمانيا بالاستدامة وله خطوات رئيسة منها:
أولاً - التخلص التدريجي من الطاقة النوويَّة:
في أعقاب كارثة فوكوشيما النوويَّة اليابانيَّة في العام 2011، قررت ألمانيا التخلص التدريجي من الطاقة النوويَّة، مع إعطاء الأولويَّة للسلامة والاستدامة.
ثانياً - التوسع في الطاقة المتجددة:
قامت ألمانيا بتوسيع قدراتها بشكلٍ كبيرٍ في مجال طاقة الرياح والطاقة الشمسيَّة والكتلة الحيويَّة والطاقة الكهرومائيَّة، ما يجعلها رائدة عالميَّة في مجال الطاقة المتجددة، ولعب قانون الطاقة المتجددة دوراً محورياً في تحفيز إنتاج الطاقة المتجددة.
ثالثاً - خفض نسبة الانبعاثات:
حددت ألمانيا أهدافاً طموحة لخفض الانبعاثات، وتعهدت بخفض انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 55 % على الأقل بحلول العام 2030 مقارنة بمستويات العام 1990.
وهنا يمكن للعراق، الذي يتمتع بوفرة في أشعة الشمس وموارد الرياح، أنْ يستمدَّ الإلهام من مشروع الطاقة الألماني، ويمكنه تسخير مصادر الطاقة المتجددة هذه لتنويع مزيج الطاقة لديها وتقليل اعتمادها على الوقود الأحفوري، ومن الممكن أنْ يكون التعاون مع ألمانيا في مشاريع وسياسات الطاقة المتجددة مفيداً في تسريع هذا التحول.
2 - التقدم التكنولوجي والابتكار:
كان التزام ألمانيا بالتكنولوجيا الخضراء والابتكار بمثابة القوة الدافعة وراء نجاحاتها البيئيَّة، وقد أدى تركيز البلاد على البحث والتطوير إلى تحقيق ابتكارات في مجال الطاقة المتجددة، وكفاءة الطاقة، والنقل المستدام.
في ما يلي بعض مجالات الابتكار البارزة:
أولاً - الطاقة الشمسيَّة:
أدى استثمار ألمانيا في تكنولوجيا الطاقة الشمسيَّة إلى إنتاج طاقة كبيرة.
ويُظهر الاعتماد الواسع النطاق للألواح الشمسيَّة على أسطح المنازل في جميع أنحاء البلاد إمكانيَّة إنتاج الطاقة اللامركزيَّة، ومن المفيد أنْ نذكرَ أنَّ مساهمة الطاقة الشمسيَّة في الإنتاج الإجمالي هي بحدود 12 ٪.
ثانياً - كفاءة الطاقة:
تعمل ألمانيا على تعزيز كفاءة الطاقة في مختلف القطاعات، من الصناعة إلى النقل إلى المباني السكنيَّة، إنَّه بمثابة شهادة على كيفيَّة دمج الممارسات المستدامة في الحياة اليوميَّة.
ثالثاً – النقل:
بوصفها مركزاً لصناعة السيارات، كانت ألمانيا في طليعة الدول التي شرعت بعمليَّة الانتقال الى الاعتماد التدريجي لمركبات النقل الكهربائيَّة، فقد كان التزامها بها وبالبِنْية التحتيَّة المرتبطة بها جزءاً محورياً من استراتيجيتها البيئيَّة.
هنا يمكن للعراق أنْ يستفيدَ من اعتماد تقنيات موفرة للطاقة وممارسات النقل المستدامة، ومع تطوير بِنْيته التحتيَّة، يمكن للعراق أنْ يتطلعَ إلى تجارب ألمانيا واستكشاف إمكانات التنقل الكهربائي لتقليل الانبعاثات الناتجة عن وسائل النقل.
فضلاً عن ذلك، فإنَّ تبني التكنولوجيا الخضراء وتعزيز الابتكار يمكن أنْ يؤدي إلى حلولٍ أكثر استدامة للتحديات البيئيَّة التي تواجهها البلاد.
3 - الأنظمة البيئيَّة القويَّة:
لقد أدركت ألمانيا منذ مدة طويلة أهميَّة الأنظمة والمعايير البيئيَّة الصارمة في السيطرة على التلوث وحماية الموارد الطبيعيَّة.
وعليه نفذت الدولة إطاراً قانونياً شاملاً يهدف إلى حماية بيئتها، بما في ذلك:
أولاً - جودة الهواء:
تطبقُ ألمانيا معايير صارمة لجودة الهواء، حيث تنظم الانبعاثات الصادرة عن الصناعات والمركبات للحد من تلوث الهواء، وتسهمُ هذه اللوائح في خلق بيئات حضريَّة أكثر صحة.
ثانياً - إدارة المياه:
تركز الدولة بشدة على موضوع الحفاظ على المياه وجودتها، من خلال القوانين واللوائح المصممة لحماية المسطحات المائيَّة وضمان الاستخدام المستدام للمياه.
ثالثاً - إدارة النفايات:
تتمتعُ ألمانيا بنظامٍ فعالٍ لإدارة النفايات والحد منها التي تعزز إعادة التدوير، والإدارة المستدامة للموارد.
هنا يستطيع العراق تعزيز أنظمته البيئيَّة وآليات التنفيذ للتخفيف من التلوث وحماية موارده الطبيعيَّة، ومن الممكن جداً أنْ يعملَ على تطوير تشريعاته ووضع أطرٍ قانونيَّة تستفاد منها في تفعيل برامج لجودة الهواء، وإدارة المياه، والحد من النفايات.. الخ لمعالجة التحديات البيئيَّة.
4 - المشاركة الدوليَّة والدبلوماسيَّة في مجال استدامة البيئة:
تشارك ألمانيا بنشاطٍ في الدبلوماسيَّة البيئيَّة الدوليَّة، وقد لعبت دوراً محورياً في تشكيل السياسات البيئيَّة العالميَّة، ومن جهود ألمانيا في هذا المجال ما يلي:
أولاً - القيادة المناخيَّة:
كانت ألمانيا مؤيداً قوياً لاتفاق باريس لعام 2015، حيث التزمت بأهدافٍ طموحة لخفض الانبعاثات ودعت إلى اتخاذ إجراءات قويَّة بشأن المناخ على الساحة العالميَّة.
ثانياً - استضافة مؤتمر الأمم المتحدة (COP23) المعني بتغير المناخ في العام 2017، مؤكدة التزامها بقيادة المناخ العالمي.
ثالثاً - التمويل الدولي للمناخ:
تسهمُ ألمانيا بشكلٍ كبيرٍ في المبادرات الدوليَّة لتمويل المناخ، إذ تقدم الدعم المالي للدول النامية لمساعدتها على التخفيف من تغير المناخ والتكيف معه.
هنا يمكن للعراق أنْ يرفع دوره في الجهود البيئيَّة الدوليَّة من خلال المشاركة بشكلٍ أكثر بروزاً في دبلوماسيَّة ومفاوضات المناخ، وإنَّ المشاركة الفعالة في مؤتمرات المناخ العالميَّة والمبادرات المماثلة يمكن أنْ تعزز مكانة العراق في المجتمع الدولي وتجذب الدعم لمبادرات الاستدامة الخاصة به.
5 - التوعية والتثقيف العام بموضوعات البيئة:
تركز ألمانيا بشدة على التثقيف والتوعية العامة بالبيئة، إذ إنَّ رفع مستوى الوعي حول القضايا البيئيَّة والممارسات المستدامة أمرٌ بالغ الأهميَّة في تعزيز ثقافة المسؤوليَّة البيئيَّة.
وتشمل جهود ألمانيا الناجحة في هذا الصدد ما يلي:
أولا - البرامج التعليميَّة:
قامت ألمانيا بتطوير برامج تعليميَّة لتعليم الطلاب حول حماية البيئة والاستدامة منذ سنٍ مبكرة.
ثانياً - المشاركة العامة:
يشارك الجمهور الألماني بنشاطٍ في المبادرات البيئيَّة، مع العديد من الحركات الشعبيَّة والمنظمات غير الحكوميَّة التي تدافع عن حماية البيئة.
هنا يستطيع العراق تطوير برامج وحملات تعليميَّة لرفع مستوى الوعي العام حول القضايا البيئيَّة والممارسات المستدامة.
إنَّ تعزيز المعرفة البيئيَّة والمشاركة بين مواطني البلد يمكن أنْ يلعبَ دوراً محورياً في دفع التغيير البيئي الإيجابي.
6 - التشريعات المعنيَّة البيئيَّة:
تركز ألمانيا بشدة على إغناء مراجعها التشريعيَّة بقوانين خاصة بحماية البيئة ودورها في نجاح السياسات الألمانيَّة الخاصة بهذا القطاع المهم.
خاتمة
إنَّ السياسات والمبادرات البيئيَّة الألمانيَّة تقدمُ مخططاً مقنعاً لمستقبل العراق البيئي وخاصة في مجال إدارة المياه واستدامتها، وبينما يواجه العراق مجموعته الفريدة من التحديات البيئيَّة، بما في ذلك شح المياه، وتلوث الهواء، وتأثيرات تغير المناخ، فإنَّه يمكنه أنْ يستمدَّ الإلهام والتوجيه من تجارب ألمانيا.
إنَّ الدروس المستفادة من تحول الطاقة في ألمانيا، والابتكار التكنولوجي، واللوائح القويَّة، والمشاركة الدوليَّة، وجهود التوعية العامَّة يمكن أنْ تمهد الطريق للعراق لرسم مسارٍ أكثر استدامة ومسؤوليَّة بيئياً.
وفي ضوء الاهتمام الكبير الذي توليـه الحكومة الألمانيَّة الجديدة بملف حماية المناخ والبيئة، وربط الملف بآليَّة تقديم المساعدات والدعـم المستقبليَّة تجاه الدول المستفيدة، من المهم أنْ تكثفَ الحكومة العراقيَّة من جهودها في هذا الملف، ويمكن الاستفادة من توجـه الحكومة الألمانيَّة لدعــم مساعي العراق في هذا الصدد خصوصاً أنَّه يعدُّ دولـة ناشئة في هذا المجال.
وبينما يبدأ العراق رحلته نحو مستقبلٍ أكثر وئاماً مع البيئة، فإنَّ التعاون مع ألمانيا والدول الأخرى التي تعطي الأولويَّة للاستدامة يمكن أنْ يكون مفيداً.
وإنَّ تبادل المعرفة والتكنولوجيا وأفضل الممارسات يمكن أنْ يحفز جهود العراق في مواجهة التحديات البيئيَّة، وحماية موارده الطبيعيَّة، والمساهمة في مستقبلٍ أكثر استدامة وازدهاراً لشعبه وكوكب الأرض.
* سفير جمهورية العراق في برلين