تماضر كريم
إنه يومٌ واحدٌ فحسب، ستعقبهُ أيامٌ صعبة وقاسية أخرى.
لم يكن ذلك القرار بمحض إرادتي.
لقد أملتْه عليّ أشياء حصلتْ في قلبي. ثمة تصدّع فيه، يشبه ما يجري على الجدران عند حصول الهزات الأرضية، عندما تتجاوز الدرجة الخامسة على مقياس ريختر.
في هذا اليوم الأجرد، اليوم الأول، حيث كان عليّ أن أحمل وحدي كلّ ذاك الحنين، بدأت ساعاتي الأولى، والصباح يمدُّ بساط ضوئه، من الشرفات، متناهيةّ إلى سمعي تلك الأصوات الصغيرة للعصافير، وحركة الأغصان، و»تكتكات» عقارب الساعة الجدارية، وارتطام قطرات الماء بسطح المغسلة. كل شيء بدا عادياً ومتصالحاً مع محيطه، عداي أنا. كنت أفكر كيف ستمضي ساعات هذا اليوم من دونها. إنه اليوم الأصعب. لو تخطيته، فسوف تمرّ الأيام القادمة تباعا. ربما بوجَعٍ أقل. كلّ ما عليّ فعله هو إبعاد خيالها عن رأسي، ورائحتها عن حواسي، وملمسها عن ذاكرتي.
وحدي اليوم، سأتناولُ فطوري، وسأكون مستمتعاً، وصوت فيروز يجعل صباحي قابلا للحب وهي تسألني عبر البحار(سألتك حبيبي لوين رايحين)، فأجيبها أن كل مكان تكونين فيه هو مكاني. ثم سأمضي إلى عملي مشياً، نعم مشياً هذه المرة، لكن من دونها هي. سأمرُّ في ذات الشوارع التي كانت فيها معي، وأرى ذات المباني.
عندما أتعب، سأدخل ذاك المقهى الذي كانت فيه رفيقتي، بتلك الزاوية البعيدة عن روّادهِ.
الآن أنا وحدي. حتى هذا الكتاب لا يؤنسني. أخاف كثيراً أن أفشل أمام صورتها الماثلة أمامي، وأخاف أكثر أن يكتشف صاحب المقهى الذي اعتاد رؤيتنا معا، حجمَ حزني وغربتي، ومن يدري قد يدركُ بحسّه كيف أني الآن أفتقدُ حدّ الجنون رائحتها التي لازالت تملأ رئتيّ، وتنفذ إلى مسامي.
في العمل، احتجتُ أن أفتح النافذة، لوهلة شعرتُ أن الهواء لا يكفي.
لم استطع فهمَ ارتجاف أصابعي، ثمة ارتعاش طفيف أيضا في ساقيّ.
تذكرتُ أنه ربما بسبب انخفاض نسبة السكر، فقد فات موعد الغداء، وها هو الجسد يطلق نداءه.في المطعم بعد خروجي من العمل، طلبتُ وجبةً ضخمة، فكرتُ أني سأستغرق اليوم وقتا أطول في الجلوس على مائدة الطعام، وجدتُ أنها فكرة مناسبة لهزيمة الوقت، والفوز بنسيانها. في الطاولة المجاورة ثمة فتاة جميلة. إنها لوحدها. تضع على الكرسي الفارغ قربها صدرية بيضاء، وعلى الطاولة حقيبة بنيّة صغيرة، وفي أذنيها سماعة. بدت بعيدة عن الآخرين، مستغرقة في عالمها، غير عابئة بشيء. ربما هي لا تعرف كم كان شعرها الفاحم المنسدل على كتفيها جذاباً. ها هما عيناها تمسكاني أتمعن فيها. هربت بنظري بعيدا. باتت تعرف الآن أني كنت أسترق النظر. ستظنُّ أني وضيع. فيما بعد لم أسمح لنفسي بالالتفات ناحيتها. حتى عندما نبهتني لوقوع نظارتي الشمسية على الأرض، حاولت إظهار أني غير مكترث. أخذتُ نظارتي وشكرتُها بإيماءة.
لمحت أقراطها الخضر الصغيرة.
لم أستبن لون عينيها، لكني تخيلتهما خضراوين بلون الأقراط. لاشك أنها تعمل في المشفى القريب. يفترضُ بي الآن الذهاب إليها، لأحدّثها كم إني أحتاج إلى استشارة طبية، أسألها إن كانت تستطيع أن تكتب لي منوّماً، والكثير من المهدئات، وربما لو وجدتها طبيبةً طيبة، سأطلب منها أن تصف لي دواءً يقتل دون ألمٍ كبير. سأقنعها أن لا شيء يستحق أن نعيش من أجله. ثم سأشرح لها كيف أنني اليوم وحيد من دون رفيقتي، فماذا تبقّى لي إذن؟
أظنّ أنها ستشفق عليّ، وتدلّني على طريقةٍ تساعدني. سأريها نقودي، النقود الكثيرة في محفظتي (هاكِ انظري.. أنا لا أبالي بثمن المنوّم الأبدي القاتل، أريده من دون ألم كبير.. يكفي ما كابدتُ من آلام).
لم يأتِ طعم الشاي كما أحبّه. حتى النادل كان واجماً على غير عادته.
لم يبد أي شيء من حولي على طبيعته، كأن الكون كلّه يتبدل. وجدت أن النظر إليها الآن صار ملحّاً.
بدت عيناها الخضراوان هادئتين مثل مرجٍ أوائل الربيع. إنهما تعيدان للكون اتزانه. قمتُ من مكاني ووقفتُ أمامها تماماً. لم أنس نظرتها الذاهلة وهي تستمعُ إليّ:( ساعديني)قلتها مراراً، دون أن أنتظر رداً، قلتها ثم خرجتُ ممسكاً قلبي.
بخطىً تشبه الركض كنت أطوي ما تبقّى من الطريق إلى منزلي.فتحتُ جميع النوافذ، الهواء لم يكن كافياً هناك، ثمة حرقة في صدري وجفاف في فمي، وسحابة بيضاء في مرمى نظري. لم ينتهِ اليوم الأول بعد. بضع دقائق فحسب تفصلني عن اليوم الثاني، لكن من المحزن أحيانا أن نفوز، ليست جميع الخسارات سيئة. أعرف أمّاً ندمت أنها نجحت في فطام ابنها بعد عذابٍ كبير، تتمنى كلّ يوم أن يعود ابنها طفلاً لكي تفشل في فطامه عن ثديها. نعم إنه أمرُ عظيم أن نخسر أمام حبّنا، هذا ما فكرتُ فيه وأنا أضعها في فمي، وأشعلها وأسحبها أنفاساً متتالية، غير عابئ بالوجع الذي
في القلب.