القضيَّة الفلسطينيَّة في المسرح العراقيّ
د . سعد عزيز عبد الصاحب
اتخذت العلاقة بين المسرح العراقيّ والمسألة الفلسطينيَّة أشكالا تعبيرية عديدة عكست في فواعلها الفنيّة سرعة استجابة الفنان المسرحي العراقي لقضاياه القومية والانسانية بتجليات الحروب العديدة التي خاضها العرب مع الكيان الصهيونيّ الغاصب لتتمثل العلاقة المبكرة في ذهاب فرقة الزبانية المسرحية في حرب 1948 إلى الجبهة للترفيه عن الجنود العراقيين في معسكراتهم وثكناتهم العسكرية وردد الجنود وضباطهم مع ناظم الغزالي ـ الذي كان أحدأاعضاء الفرقة ـ أغان وطنية وعاطفية وشاهدوا (سكيجات) ومشاهد تمثيلية كوميدية ساخرة على السواتر الامامية للجبهة.
وكان لكتابات الفريد فرج في (النار والزيتون)، وسعد الله ونوس في (حفلة سمر من أجل 5 حزيران)، ويسري الجندي في (واقدساه) و(الطريق) لنصر الدين فؤاد، و(فلسطينيات) لعلي عقلة عرسان، صدى واسعا ومؤثرا في شواغل المسرحيين العراقيين، مستلهمين ما جادت به قرائحهم الفنية لتجد طريقها إلى خشبة المسرح بفعل طزاجة التفاعل مع الحدث الكبير حرب حزيران 1967 وما تلاه من تحول درامي بفعل الصدمة الهائلة التي أحدثتها تداعيات تلك الحرب على العقل الثقافي العربي والاتجاه نحو الكوميديا السوداء والكابريه السياسي والسخرية في شواغل المسرحيين الفنية.
وكان للرائد المسرحي جاسم العبودي قصب السبق والأثر البالغ في تجسيد تلك المسرحيات اخراجيا بتحولها الجديد بتقنيات مسرح المواجهة والمسرح التسجيلي لـ (بيتر فايس) والمسرح الملحمي (البريشتي) عندما قدم مسرحيتي (الطريق) و(حفلة سمر من اجل 5 حزيران) وحازت الأخيرة صدى واسعا وتركت انطباعا طيبا لدى الجمهور الواسع وشكلت علامة فارقة في كيفية تفعيل التيارات المسرحية الحديثة آنذاك ووضعها في خدمة القضيّة الفلسطينيَّة لانتاج خطاب حداثي معاصر وليس شعاراتيا مباشرا أو منبريا، وقد جاءت تقنية (الاسقاط) من خلال القناع التأريخي وتضمينه للقضية الفلسطينيَّة بشكل رمزي استعاري غير مباشر من خلال كتابات الفلسطيني معين بسيسو في (ثورة الزنج)، حين أسقط ما حاق الزنج في البصرة من قتل وتهجير وسلب للأرض والقوت في القرن الثالث الهجري على يد الخليفة المعتمد بأمر الله الذي مارس وبطانته دورا شبيها لدور الصهاينة الجدد في تشريد الفلسطينيين ووضعهم في (جيتو) وعزل قسري لأجل القضاء عليهم، وقد أخرج المسرحية الراحل سامي عبد الحميد، وقدمها في فضاء اكاديمية الفنون الجميلة عام 1975، وكذلك مسرحية (باب الفتوح) للكاتب المصري محمود دياب في معالجتها للمسألة الفلسطينيَّة في ضوء إعادة إنتاج الحروب الصليبية والعودة الزمنية لتواريخ سابقة ومقارنتها باللحظة الراهنة على وفق خلق (تاريخانية) جديدة تضع الشواهد السابقة في التاريخ على المحك مع اللحظة الراهنة وتصدى لإخراج المسرحية المخرج الراحل محسن العزاوي 1977، ومن المهم الاشارة إلى الجهد الأدبي بالغ الاهمية على الصعيدين الفكري والجمالي للمؤلفين العراقيين في استلهامهم للقضيّة الفلسطينيَّة من خلال تقنيات الأعداد والاقتباس والتوليف لاشعار المقاومة أو تأليفا خالصا يتكأ على الارشيف والوثائق والبيانات العديدة عن الحروب الثلاثة (1948 ،1967 ، 1973) أو ثورة الحجارة بمحطاتها العديدة فكتب جليل القيسي نص (جد عنوانا لهذه التمثيلية)، وأخرجها سامي عبد الحميد لفرقة المسرح الفني الحديث. وتحكي قصة نهوض الشهداء الفدائيين من مقابرهم ورفضهم الدفن إلى أن يحرروا الأرض والبحر من الغاصب المحتل، وكذلك مسرحية (أنا ضمير المتكلم) والتي أعدها وأخرجها الراحل قاسم محمد عام 1973 من مجموعة أشعار المقاومة الفلسطينيَّة لـ (محمود درويش، وسميح القاسم، ونزار قباني، وأحمد مطر) وغيرهم.
وقد قدم المؤلف محي الدين زنكنه نصوصا عديدة عن القضية الفلسطينيَّة، وذهب بعيدا عن الخطاب المباشر والاستعراض البطولي الشعري للغة موظفا النوع المونودرامي في إنتاج نص (ذاتي) مقاوم يحكي علاقة المقاوم الفلسطيني بالحجر الذي يرسله غاضبا بوجه المحتل وذلك في مسرحية (تكلم يا حجر) التي أخرجها الراحل وجدي العاني عام 1989، وكذلك في مسرحية (السر). ومن العروض المسرحية التي شكلت انزياحا فنيا في مسرح المقاومة بقصد التهييج الجماهيري الآني للشارع العراقي آنذاك مسرحية (أين هو الضوء الاخضر؟) اعداد الراحل عزيز عبد الصاحب عن أشعار المقاومة واشعاره الشخصية بأخراج حميد الجمالي، وقدمت في حصن الاخيضر عام 1972 وهي من التجارب المسرحية الأولى للفرقة القومية للتمثيل في الفضاء المفتوح حيث قدمت في مهرجان الاخيضر الثالث في كربلاء ومثل فيها الممثلون: عبد الجبار كاظم، وعزيز عبد الصاحب، وافراح عباس، وصبحي العزاوي، وصدح فيها لأول مرة صوت المطرب الراحل رياض أحمد بالمواويل الفلسطينيَّة.
وكذلك انفتحت مسرحية (الخرابة) ليوسف العاني، بإخراج مشترك لسامي عبد الحميد وقاسم محمد، على وثائق وبيانات واحصاءات وأرقام عن القضية الفلسطينيَّة، عرضت بسلايدات وأفلام على الجمهور تبين فداحة ما حصل من قضم ممنهج للأراضي الفلسطينيَّة، وقتل وانتهاك لشعبه وعزله في مخيمات نائية على مدى اربعين عاما، عرضت المسرحية على مسرح بغداد عام 1972. وما أن عقد اتفاق (اوسلو) عام 1993 بين السلطة الفلسطينيَّة والعدو الصهيوني حتى تغير الخطاب المسرحي في تناول المسألة الفلسطينيَّة وانتهت النبرة الحادة المواجهة في الخطاب وسكت صوت البندقية بإتجاه صوت الحوار والجدل، فكانت ولادة مسرحية (البديل) كتابة يوسف الصائغ وفلاح شاكر في تجربة تأليف مشتركة تحكي المسرحية قصة عالم صهيوني نووي يرقد في المستشفى بحالة خطرة، ويحتاج إلى تبديل قلبه بقلب آخر سليم. وصادف أن كان يرقد في نفس المستشفى أحد شباب المقاومة الفلسطينيَّة يعاني من جروح بليغة، تساوم زوجة البروفيسور (راشيل) أب وأخ المقاوم الفلسطيني في اعطائهم قلب ولدهم السليم لقلب زوجها المعطوب أزاء مبلغ كبير من المال. تدور حبكة المسرحية حول هذه الجدلية المستحيلة من وجهة النظر الفلسطينيَّة يرفض الاب والاخ والزوجة إعطاء قلب ولدهم فيموت المريضان معا في المشفى في النهاية.
أحدثت المسرحية هزة عنيفة في شكل التناول التراجيدي للقضيّة الفلسطينيَّة من منظور آخر لم يتناول سابقا وتم تقديم النص ثلاث مرات في بغداد وبرؤى إخراجية مختلفة حيث كان أول المشتبكين معه المخرج الراحل محسن العزاوي عام 1995، واشترك به في مهرجان قرطاج الدولي تلك السنة في تونس ، ومن ثم أخرجه المخرج والممثل احسان الخالدي عام 1997 وأخيرا تعالق مع النص الممثل والمخرج سنان العزاوي عام 2000، وسافر به مع فريقه إلى مهرجان القاهرة التجريبي، وكانت تجربة المخرج والكاتب جواد الاسدي في مهجره العربي تجربة حرية بالتأمل والوقوف لديها طويلا، خصوصا وأنها اشتبكت معنويا وماديا لتمثل منظمة التحرير الفلسطينيَّة. إذ حمل الاسدي على عاتقه فكرة صليب الالام الفلسطيني ونشره مسرحيا، وكان في مأزق مأساوي حاد بين أن يكون بوقا دعائيا للقضية الفلسطينيَّة أو أن يكون مستقلا بخطابه الجمالي غير مؤدلج أو منتمي، فكانت مسرحيات (الاغتصاب) لسعد الله ونوس و(خيوط من فضة ) و(المجنزرة مكبث) للاسدي نماذج لمسك العصا من الوسط وعدم التورط الايديولوجي أو الاستقلال الجمالي الكلي.
وقف الاسدي بين المنتمي واللامنتمي ليحقق مشروعه الإنساني الكبير في تحرير الذات من ازدواجيتها ودوغمائيتها نحو الإنسان الأممي الأوسع والأشمل، وليعبر عن غضبه من الآلة العسكرية الاسرائيلية التي تهرس من يمر بقربها بلا إنسانية ولا رحمة. ومن المسرحيات اللافتة التي قدمت في الاقاليم والمحافظات العراقية مسرحية (اسياد الدم) وهي من تأليف التشكيلي العراقي كاظم إبراهيم، وإخراج الراحل عزيز عبد الصاحب في الناصرية جنوب العراق، وهنا اقتبس شيئا من سيرة الراحل عزيز عبد الصاحب ودفتره القديم يتحدث فيه عن هذا العرض: (في نهاية عام 1967 حين كانت القضية الفلسطينيَّة ملتهبة، وقد صكت اسماعنا كثرة الشعارات وضجيج المنظمات، جاءني ذات مساء التشكيلي كاظم إبراهيم وقال لي اقرأ هذه المسرحية أنا كاتبها وهي عن فلسطين وهي بلا شعارات ولا ضجيج ولا عنتريات قرأت المسرحية، وفعلا اعجبتني مسرحية بعنوان اسياد الدم وفيها تشخيص نفسي لموشي دايان وزير الدفاع الاسرائيلي آنذاك وتاريخ الجريمة في حياته ، اذ يطرح المؤلف جذور الشر داخل شخصيته، وكيف بدأت منطلقات السادية عند هذا الإرهابي الصهيوني الدموي القادم من بولندا، وكيف تراكمت الجريمة في ذاته حتى أصبحت أمرا عاديا يوميا وجزءا من شخصيته، وهو موضوع نفسي عميق إذ يلتقي الشيطان بموشي دايان ويعقد صفقة معه يكون فيها دايان مطية الشيطان، وواضح تأثير شخصية فاوست لكرستوفر مارلو على حبكة النص). يكمل الراحل عزيز عبد الصاحب (فأسندت دور موشي دايان للفنان بهجت الجبوري، أما الشيطان فمثله كاظم ابراهيم وقدمت المسرحية على ستائر سوداء ومدرج أعلى وسط المسرح ونجح العرض الذي كانت تسوده روح التأمل لا الشعارات الزائفة). أخيرا هناك نماذج عديدة أخرى من المسرح العراقي تناولت القضية الفلسطينيَّة وبقراءات ورؤى مختلفة، لا يتسع المقام لذكرها لكثرتها وتعدد أساليبها وتياراتها المسرحية.