مرتضى الجصاني
على الرغم من اتساع رقعة تيار الحروفية في أرجاء الدول العربية كافة، إلا أن المغرب العربي كان له الحصة الأكبر من التجربة الحروفية، حيث شهد تطوراً ونضجاً عبر تداخلات وتأثيرات عديدة ما بين الخط العربي والتأثير الغربي الأمر الذي إلى تمازج الثقافات وتناغمها ومن ثم إخراجها على قماش
اللوحة.
ورغم أن مفهوم الحروفية هلامي، ولا يمكن تحديد شكله على وجه الدقة بسبب تداخل المفاهيم المرتبطة به.
إلا أنّ ما نلاحظه من أعمال حروفية رائجة تنال العديد من الجوائز قد أتخذت شكلا واحداً متكرراً ومملا يعتمد بالأساس على نثر كميات من الحروف وتغطيتها بمساحات واسعة من الألوان.
هذه الأعمال التي تطرح تحت تسميات "تيار الحروفية" هي في حقيقة الأمر لا صلة لها بهذا المسمى، لأن الحروفية أبعد وأكثر عمقا من كتابة الحروف وتكرارها، فضلا عن أن هذه الحروف لا تستند في شكلها على فن آخر كالرسم والألوان، بل هي (أمة من الأمم)، بحسب ابن عربي الذي تناول الحرف ودلالته الرمزية.
هذا التأويل، برأيي، لم يظهر بصورة جلية في أعمال الحروفية- منذ بداية نشوء هذا التيار وتطوره ولغاية الآن- إلا في حالات نادرة، لأن الحروفيين اشتغلوا على استلهام الحرف، ولم يكونوا خطاطين بالمعنى الحقيقي، بل كانوا ينظرون للخط على أنه حرفة وفن يدوي ليس له مقومات كالفنون الأخرى.
وهذه إشكالية كبيرة لا اعتقد أني رأيت أو قرأت أن لها حلولا تنظيرية، أو عملية، أقصد -إشكالية الحرف العربي والخط العربي- مما دفع بالفنانين المشتغلين في مجال الحروفية الاستناد في أعمالهم على فن التشكيل، واستخدام الحرف العربي كرمزية أو دلالة أو وظيفة، ولذا فإن الفن الحروفي لم يصل مرحلة النضج الكافي من ناحية النظرية والتطبيق.
لكن، مع ذلك، هناك تجارب فردية تمكنت من أن تقدم أعمالا حروفية تتسم بالعمق والتأويل، وتضفي على هذا الفن طابعا فخما يستحق أن يكون موضع تأمل ودراسة، ومن هؤلاء القلائل الفنان المغربي نبيل الرقيبي، وهو خطاط جاءت أعماله متسمة بروح الخط العربي، ويكاد استخدامه للخط يكون ضبابيا ليس له شكل واضح، إلا أنه يستمد روح الحروف ويضعه على القماش.
ووفقا لهذه الرؤية نجده "يقول ما يريده في النص من دون النص، وحكمة من دون كتابتها"، بل يتجاوز ذلك إلى رؤى وهموم تتحول إلى شكل عام للوحة، ومتخذة أمزجة روحانية في محالة تجاوز الأساليب الحروفية الشائعة من تكرار وتشابه، بل يجعل عمله الفني تعبيرا عن ذاته وأفكاره ورؤاه.
لقد تأثر الرقيبي في المدارس الغربية بشكل جعله يتشبع بالرؤى من حيث الخطاب الفني وتشكل الموضوع، وهذا ما يفتقده منهج الحروفية السائد، الذي أصبح عملا واحدا مكررا بأشكال مختلفة.
الملاحظ أن أعمال الرقيبي قليلة ولكن الأهم إنها تملك منهجا جماليا يسير عليه الفنان، وهو تشبع بصري ونظري يتحول على القماش إلى ألوان وحروف هلامية.
وعلى الرغم من أن الفنان ينتمي لمدرسة "الحدونية" التي تهدف إلى المزيد من الاختزال والتكثيف واستخدام الحد الأدنى من العناصر في اللوحة، إلا أنّه جعل لكل من الخط العربي والحرف العربي ثيمة العمل الأساسية التي تتراكم فوقه مساحة اللوحة بعناصرها القليلة من تقنية ومزيج كتابي ايهامي يبدو للمتلقي وكأنه بوح عميق ورسائل معتقة تسرد أسرارا لا يرغب الفنان أن يبوح بها، وفي ذات الوقت لا يحاول اخفائها، هو يجعله مواربا ويترك المعنى لخبرات المتأمل في صياغة
النص.
الرقيبي مختزل حتى في ألوانه، فهو لا يفضل الألوان المتعارف عليها، ويركز على الأسود والأبيض في تأمل لمعنى اللونين، وما يتشكل منهما عبر عملية التفاعل الكيميائي مع المواد بمرور الوقت لتأخذ شكل آخر.
هكذا يمنح الفنان معنى لرمزية الزمن على قماش اللوحة، فهو كما يسميه (إلحاح في الذاكرة).. (الذاكرة) زمن مفقود، والعمل محاولة تشكيلها على ورق معتق، أو حبر متدفق نحو مسامات القماش، وهنا يكمن توثيق الأثر المتمثل في الروح الذاكرة وليس الأثر
الواقعي.