محمد صابر عبيد
تمثل العلاقة بين المركز والهامش واحدة من أكثر إشكاليّات العصر العولميّ الحديث سجالا وحواراً وتعقيداً، وتحدياً لأصالتها وقيمها ومنجزها أيضاً، وهي تعكس في جانب جوهري وأساس منها إشكاليّة الأكثرية والأقليّة حين تنتمي الأكثرية إلى المركز في حين تنتمي الأقليّة إلى الهامش، وهذا الصراع يكاد يكون وجودياً لا يمكن التقليل من شأنه أو تجاوزه أو إهماله؛ لما له من قوة تأثير فاعلة على مستقبل الوجود البشري، فصراع المركز والهامش هو في حقيقته صراع إنسانيّ مفاهيميّ وجودي في آن، مركزه ومادته وأطرافه المتصارعة (الإنسان) الباحث عن وجود أثبت وحياة أفضل؛ حتى لو كانت على حساب الآخر، فهذا الإنسان بطبعه ميّال نحو تركيز ذاته والانتصار لها والنضال من أجل تحقيق أهدافه الخاصة مهما كانت الصعوبات والعوائق.
يؤول هذا الصراع عادةً إلى صراع مدمّر؛ لا يلتفت إلى الإنسان بوصفه حياةً وحركةً وفعلاً ومصيراً، بل يعاينه بوصفه مادة صالحة لتحقيق المقاصد وانتصار هُويّة على هُويّة مختلفة بلا أيّ مرجعيّة أخلاقيّة وإنسانيّة تحكم هذه السياسة. وقد تكون المشكلة لدى الأقليّة أكبر وأوسع وأعمق ممّا هي لدى الأكثريّة؛ في إطار حساسيّة الدفاع عن الهُويّة والكفاح من أجل توكيد الحضور وتحقيق الوجود، مهما كلّف الأقليّة ذلك من التسلّح بكلّ ما هو متاح وصولاً إلى الهدف.
لا يمكن فهم هذه الإشكاليّة ووعيها وإدراك حدود عملها وتمثّل خصوصيتها من غير التعامل المنهجيّ القائم على تحدّيها وتنوير مناطقها المعتمة، وذلك بكشف آليّات عملها الباطنيّة ومرجعياتها وخلفياتها، لكنّ المتحقّق النظريّ من هذه الجدليّة على صعيد السجال والمحاورة والمناظرة يكفي للتوغّل عميقاً في تمظهراتها؛ داخل ميادين الفنّ والأدب والأنشطة الإنسانيّة الخلّاقة الأخرى العاكسة لمجمل هذا الصراع إبداعيّاً.
لماذا علينا يا ترى أن نبحث في كلّ مكان وزمان وحدث وحوار ووصف ورؤية عن هويّة ما؟ أيّة هويّة، وكأنّ الإنسان لا يمكنه العيش أو التنفّس بلا هويّة تنير دربه، وتُريه تفاصيل وجهه ووضوح ملامحه وصفاء دمه وأصالة جذوره، وتعزّز وجوده الماديّ في الحياة، ثمة نكهة خاصّة وحساسيّة خاصّة وهواء خاصّ ولذّة خاصّة في هذه الهويّة المنشودة التي نبحث عنها دائماً، ومن دونها نشعر أبداً بالعجز والضياع والتيه والغربة وفقدان الترابط والتماسك والوضوح؛ وكأنّ نقصاً حقيقياً مُروّعاً ينغصّ علينا حياتنا، ويقلّل أهميتنا، ويضعنا فوراً في مهبّ ريح رعناء وعمياء ما تلبث أن تقتلعنا من جذورنا بسهولة.
ثمّة سؤالٌ غالبٌ في خطورته حول ضرورة الهويّة المَحلومُ بها في عالم غامض ومعقّد؛ يتقدّم بخطى عولميّة لاهثة ومجنونة نحو هويّة المادّة التي لا هويّة قبلها ولا هويّة بعدها، حيث الاقتصاد الأرعن يتسيّد مُقدّرات العالم ويتحكّم به وبمصيره، ويحكمُ مسيرته بقبضةٍ من حديد وصُلب ونقود ونفوذ في كلّ مكان، تُرى ما ضرورة الهويّة وهي عنصرٌ معنويّ وهلاميّ مجرّد غير مادّيّ وغير ملموس، لا يُباع ولا يُشترى، ولا يمكن التحقّق من وجوده الفعليّ بسهولة؟
ما ضرورة الهويّة وهي لا تغني من جوع، ولا تمنع من خوف، ولا توفّر دواءً، ولا تُصلح جهازاً كهربائيّاً عاطلاً في المنزل؟ هويّة الأكثريّة وهويّة الأقليّة نَسَقان متوازيان لا يلتقيان، ويمضيان في سبيلهما إلى ما لا نهاية، هويّة الأكثريّة هي الغالبة وهويّة الأقليّة هي المغلوبة، بلا أمل في تغيير هذه المعادلة في المدى المنظور مهما تعالت صيحات الديمقراطيّة وشعاراتها على شبكات التواصل الاجتماعيّ وعلى منصّات الميديا.
ربّما هذه هي شِرعةُ الحياة في أصل منطقها وحقيقة وجودها وتكوينها وبناء علاقاتها؛ على وفق قواعد وقوانين سارية المفعول أبدَ الدهر بلا هوادة، تلك التي أخذت أشكالاً متعدّدة ومتنوّعة منذ الإنسان البدائيّ وحتى الإنسان (الشابكيّ) العولميّ الذي يختصر العالم كلّه في شاشة فضيّة صغيرة، أو هاتف ذكيّ نقّال بحجم الكفّ، وقد مرّتْ بسلسلةٍ عنيفةٍ من المراحل امتُهِنَ فيها الإنسانُ في كلّ مكان وزمان؛ وراح ضحيّة الأيديولوجيّات والمقاصد والأفكار التي يضعها الأقوياء عادةً لكبح جماح الفقراء.
هويّة الأكثريّة هويّة ضاغطة قاهرة متسلّطة، وهويّة الأقليّة هويّة مضغوطة، مقهورة، مغلوبة على أمرها، مهما ادّعت هويّة الأكثريّة كذبة التسامح والديمقراطيّة والأحقيّة المتساوية للجميع في هويّة مشتركة، ومهما أذعنت هوية الأقليّة واستسلمت للأمر الواقع - نفاقاً ومداراة وتزلفاً-، إذ إنّ هويّة الأكثرية لا ترغب ولا تسمح بتغيير واقع الحال مثلما أنّ هويّة الأقليّة تقتنص أيّة فرصة مواتية للانقضاض على هويّة الأكثريّة وتدميرها والبطش بسلطتها، ابتداءً من اللغة وليس انتهاءً بالتصفية الجسديّة في مقام الانتقام والثأر.
تصنع هذه الإشكاليّةُ المُجحِفةُ على الدوام صوتَين متضادَّين، الصوت الأعلى المهيمن والسلطويّ الطاغي، والصوت الأوطأ المستكين والباطنيّ والمشحون بالكُرهِ والنقمة والحقد، ولا يوجد -للأسف- صوتٌ يتوسّط بين الصوتين يمكن له أن يشكّل منطقة حرّة بينهما، يكون بوسعه بمرور الزمن التقريب بين إيقاع الصوتَين، وإيجاد نغمة مشتركة يلتقيان فيها، على أملِ حوارٍ مُجْدٍ يقلّل الفوارق ويزاوج بين الممكنات وينشئ قاعدةَ تواصلٍ نظيفة وصافية وموضوعية، تمحو ما تيسّر لها من جنون التسلّط عند الأكثريّة، وتفرّغ ما تيسّر لها أيضاً من بركان الحقد الذي يغلي في مرجل الأقليّة بلا هوادة.
هويّة الأكثريّة هي هويّة المطابقة والتطابق مع الذات، وهويّة الأقليّة هي هويّة الاختلاف والتجاذب مع الذات، هويّة المطابقة لا تسمح بالاختلاف وتمنع مجرد التفكير به، وهويّة الاختلاف تُجاري المطابقة وتجاملها ظاهراً، وتخزنُ قهراً ونقمة عليها باطناً، ويظلّ الصراع الجوانيّ العميق بين الهويّتين قائماً وفعالاً ومضاعفاً باستمرار، يشعر به الجميع ويتناساه الجميع في الوقت نفسه ولكلّ أسبابه المختلفة عن الآخر.