سنوات ثامر الأغا.. تحولات الرؤية الداخليَّة

ثقافة 2023/11/27
...

  عبد علي حسن

من التعريفات المهمة والمكثٌفة للحداثة كما وضعه (جيمس مكفارلن) في كتابه ذي الجزأين (الحداثة) هو أنها (التعبير عن النفس من الداخل) وبهذه الكلمات الخمس تتبدى مهمة الفنان الحداثي في قدرته التعبيريّة عن تجاربه التي ستتجاوز البنيَّة السطحية المرئية لتفاصيل التجربة، فهي الانتقال التعبيري من المرئي إلى اللامرئي الذي تتكفّلُ القدرة التخييلية للمبدع بتخليقه ليخاطب ما اختزنه المتلقي من خبرات جماليَّة ومعرفيَّة، وعن طريق استدعاء هذه المرجعيات سيتمكن من فتح مغاليق التجربة الفنية. أقول ذلك وأنا أتصفّح كتاب التخطيطات (خطوط السنين) للفنان العراقي ثامر الأغا الصادر عن دار الصواف للطباعة والنشر/ 2023، بطباعة أنيقة حافظت كثيرا على جماليّة التخطيطات وألقها، فقد تضمن الكتاب مجموعة كبيرة من التخطيطات التي تمتد على مدة زمنية طويلة مثّلت تجربة الفنان التي بدأت على نحو واضح منذ عام 1976 اثر مشاركته في معرض الشباب الذي أقامته دائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة ولحد الآن.
أظهر هذا الكتاب اهتمامه بفن التخطيط ليس بعدّها مشروعاً للوحات قادمة/ سكيتشات، وإنما بعدّها لوحات تخطيطية مكتملة البناء التشكيلي الذي يشير إلى جماليات التخطيط أثناء تفاعل الفنان مع تجربته الإنسانية. ولعل اختصاصه بفن الجرافيك الذي تلقاه في معهد الفنون الجميلة/ بغداد هو ماجعله مقترباً من فن التخطيط الذي يشترك وفن الجرافيك في اعتماد التخطيط تقنية في إنجاز العمل الفني، فالتخطيطات التي تضمنها الكتاب بحجم الوورد المتجاوزة لـ ( 250 ) تخطيطا خلال أربعة عقود زمنية، قد أحاطت بالوقائع والأحداث التي تفاعل معها الفنان تفاعلاً داخلياً عبر إعادة صياغة وتشكّل جديد اختصت به قدرته التخييلية على طرح رؤى تنفتحُ على إمكانية توفير فرصة وممارسة تأويلية للمتلقي على لمّ شتات المفردات التشكيليّة التي يتضمنها التخطيط ليؤثث سرديته التشكيليّة
الخاصة به.
ولاشك في أن قصديَّة البناء الحداثيّ للشكل الفني للتخطيط هي نتيجة التفاعل الدراميّ المتوتر بين الفنان والوقائع التي وضعت المتلقي في ذات المنطقة الدرامية ليجد نفسه في خضمّ الاشكاليات الفاعلة في حركة الواقع العراقي ليتفاعل معها.
ولاشك بأن التجريبية التي اعتمدها الفنان الأغا في تنفيذ تخطيطاته قد  تواصلت مع الإتجاه التجريبي الذي أرسى أسسه فنانو عقد الستينيات، وفق موجهات حداثية خرجت من تقييدات المدارس الفنية التي قوّضتها فنون مابعد الحداثة، فقد مارس الفنان الأغا حريته في الدخول إلى مناطق مفتوحة كالٱيروسية وتفكيك العلائق المنفعلة الشائعة في البنية الاجتماعيَّة وحتى السياسيّة، فانتهاكات الوجود الإنساني على كافة المستويات كالاحتراب الطائفي ومخرجاته ومعاناة جائحة كورونا وقبلها الحروب السابقة التي عانى منها الفرد العراقي، كل تلك الفواعل الحياتية وتفاصيلها تم التعبير عنها بأسلوب يبتعد عن محاكاة الواقع ويقترب من طرح رؤية داخليّة تكشف عن غائية ماهو فاعل سلبي في بنية الواقع، على أن المتلقي سيجد أنه يتمكن وعبر إدراكه الحسي التحولي من الوصول إلىٰ المغزى الذي ينفرد به كل تخطيط .
 لقد تمكن هذا الكتاب بعدّه كاليري متنقل من توثيق الأثر التخطيطي لتجربة الفنان ثامر الأغا التي حملت تفرده و (طمغته) الخاصة به على حد تعبير (بودلير) التي تستلزمها حداثوية الفنان ، فضلا عن كونه مادة تصلح للدراسة الفنية سواء على المستوى النقدي أو الأكاديمي كونها تحمل الملامح المشكّلة لفواعل حركيّة الذات وحركيّة الواقع  الموضوعي .