ضوء من منتصف السقف

ثقافة 2023/11/27
...

 إسماعيل نوري الربيعي

ثمة طرق متعددة ومختلفة لممارسة الحياة، ومن أجل توكيد هذا المعطى، ترى كريم الشعلان لا يتوان عن الإطاحة بقواعد رسم الخرائط وطريقة تحرير الأطلس الجغرافي، بل أنّه لا يتورع عن نسف قواعد الجغرافيا برمتها. والأدهى أنه لا يتردد في إهلاك العلاقات الراسخة بتبّصر حكيم، وتروّي راهب بوذي متطلّع نحو لمّ شتات ما تبقى من آثار وأطلال وخرائب. إنها الرغبة الطامحة نحو إزاحة ثقل الاضطراب وتزاحم الأزمة وتقمصات الفوضى والتوتر، وتفاقم الهرج والمرج والنزاعات التي تحط بثقلها على العالم.
«قلق وإكراهات وآمال.. آمال وإكراهات وقلق” إنها حلقة بوروميان بثالوثها الذي يغوّل عميقا في نصوص الشعلان كريم أو كريم الشعلان، إذ لافرق بين التسميتين،  فكلاهما كريم وكلاهما مشتعل. حيث اضطرام الكلم وجمرة الأفكار وجذوتها، وحرائق الآمال والأحلام والتمنيات، تلك التي لاتنفك تذكي سعير تأملات كُتب عليها، أن تكتوي بضرام التشهي ولظى ما تبقى من الحروف، ولهيب ملامح تداخلت فيها قسمات وجوه لم نعد نميز فيها شيئا.
إن هي إلاّ ضُرمة، هكذا يتم اختصار قبس الحياة وتفاصيلها ومشغلاتها وهمومها، وكآباتها التي لاتعرف الانقطاع. نصوص عكف عليها بأريحية وسخاء. واسما الراء وسط الحب في عالم فقد بوصلته وغابت عنه المعايير، وانكفأت فيه المسرات والأفراح الصغيرة، متتبعا المفارقات المبكية- المضحكة لسفير السلام العالمي.
هكذا يمضي شعلان في فيض بوحه، (مـتأملا الضوء المتدلي من منتصف السقف) وهو (مستلقيا على ظهري، متمعنا يديها البضتين). ويكشف عن طريق التعاطي مع الواقع والحياة والدنيا عبر إمعان الخيالي حيث الضوء الذي لا ينفك يحضر متدلّيا، والسعي نحو تفعيل الرمزي عبر التركيز على وضع الاستلقاء بوصفه الطريقة الممكنة للتعاطي مع الواقع الحقيقي العياني المباشر، عبر تخصيب الخيالي والرمزي، في مزيج يقوم على التمعن والتبصر والتأمل والتفكر والتروي والتدبر. هنا تحديدا تتجلى اسهامة شعلان في كتابة (القص القصير)، حيث المسعى نحو ترسيخ فكرة عنت عليه، وتطلع نحو تنفيذها وإنجازها باعتبار التطلع نحو رسم خطوط لهذا العالم الفسيح من خلال تقنية (التلخيص، التقليص، الاختصار، الايجاز، الاختزال، الاقتصار، الاقتضاب).
الثيمة الرئيسة التي تتوحد حولها نصوص شعلان، تتوقف عند مرتكز (الواقع)، بجميع تجلياته، حقيقة، حسية، صحيحة، مادية، ملموسة، مؤكدة، محققة، منفذّة، منجزة. واقع لا يفتأ القاص عن قلب المعادلة فيه. عبر إشعال جذوة الصدمة فيه، ساعيا للكشف عن مكامن الخوف ومراتب الحيرة ومكانة الغرابة، ومنزلة العجب وحُظوة الشده وقُربة الذهول ومحل الروع ومنزلة الدهشة. واقع شديد الالتصاق بالواقع حتى ليدخل في روع المتلقي أن هذا الكم من المفارقات التي يحشدها القاص، تدخل في حيّز البديهي والواضح والجليّ والمسلّم به .
البحث عن معنى تتفاعل فيه معطيات الوجود والوعي، حيث المسعى نحو الوعي بالموقع الطبقي. تفاعل يقود نحو تثمير الخيال استنادا إلى المقومات التي يقوم عليها الرمزي بالمجمل من المستويات التي ينهض بها من ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة وإنسانيّة. وعي يقود نحو تصدر الخيال والتخفيف من غلواء الفهم النهائي للواقع. الخيال بوصفه الطريق نحو التعاطي مع الواقع من خلال أصغر ما في هذا العالم، والأقل شئنا. والبسيط والمهمل والمركون على قارعة الطريق. لا يوجد ما هو مهم أو غير مهم في الواقع الذي يترصده كريم شعلان. كل شيء في الواقع هو الخلاصة والجوهر والمكوّن الأساس الذي يقوم عليه. الضعف والقوة، أم البساطة والتعقيد، أو البناء والهدم. إنها المعادلة التي تقوم على الأساسي والجوهري والأصيل، الذي يشكل مركبات الواقع. بعيدا عن الإزاحات والانتقاءات، والمسلّمات القارّة والثابتة. إنه الانهمام بالطريقة الممكنة التي يتم من خلالها إعادة ضخ الحياة في (الواقعي، الحقيقي، الجوهري)، الخالي من المقحمات والإضافات والحشو والزيادات التي يفرضها كاتب النص.
كريم شعلان ينصب اهتمامه على اليومي، حيث الانشغال بالتفاصيل الدقيقة. يحاول بكل ما أوتي من جهد أن يصل برائحة حشائش الحدائق إلى أنف القارئ. يسعى جاهدا نحو مشاركة القارئ في اقتسام مسرح الحكاية. وهكذا تراه يفسح المزيد من الفضاء لزوايا المشهد. لا يتوان عن اقتراح المزيد من السيناريوهات المتاحة والممكنة، من دون السقوط بالمباشرة. إنه الإيحاء الذي يتبدى بوصفه متمما للحكاية، وجزءا لا يتجزأ من مكوناتها الجوهرية والأصيلة.