اندرو هيسي
ترجمة واعداد: مي اسماعيل
سواء أحببناه أم كرهناه، فإن بونابرت يشكل قيمة مركزية في الهوية الفرنسية؛ ولعله الفرنسي الأشهر على مر السنين. فهل كانت هوليوود موفقة في تحويل ذلك القلق الوجودي إلى ملحمة سينمائية؟
ترى المصادر الأكاديمية أن نابليون قد يكون الشخصية الأكثر تصويرا في تاريخ السينما؛ ولأنه شخصية معقدة تعد هالتها ووحشيتها وعبقريتها مناسبة تماما لتقديم سينما رائعة؛ فإنه يشكل تحديا لا يمكن مقاومته لأي صانع أفلام جدي.
لا عجب إذ يستسلم المخرج "ريدلي سكوت" في عامه الخامس والثمانين، والذي تتضمن مسيرته الإخراجية الطويلة غزيرة الإنتاج العديد من الأفلام الكبيرة والكاسحة؛ أخيرا لإغراء تقديم فيلم عن "العريف الصغير" من كورسيكا؛ يؤدي فيه الممثل "خواكين فينيكس" الحائز على جائزة الأوسكار دور نابليون.
تَعِد الدعاية المنشورة عن الفيلم بسرد حياة بونابرت من خلال علاقة حبه المعذبة مع زوجته "جوزفين"، وغيرته وهواجسه، ثم خطته الكبرى لغزو أوروبا. ويبدو ان الملحمة تحمل ملامح أعمال ريدلي سكوت (مثل فيلم "المصارع- Gladiator")؛ وفيها على الأقل بعض مشاهد المعارك التي تمثل بصمة سكوت المعروفة. من خلال إنتاج فيلم عن نابليون يسعى سكوت بطبيعة الحال لتحقيق العظمة؛ إذ يضع نفسه ضمن مسيرة يمكن إرجاعها تقريبا إلى تاريخ اختراع السينما؛ حينما أنتج "لويس لوميير" عام 1897 فيلما قصيرا يصور نابليون وهو يجادل البابا "بيوس السابع"؛ مستندا على وقائع لقاءهما الحقيقي عام 1804؛ عندما حاول نابليون (في نوبة غضب) إقناع البابا بنقل العرش البابوي إلى باريس!
مسيرة فرسان ممتعة
يتعثر صانعو الافلام باللغة الانكليزية عادة حينما يقدمون فيلما عن نابليون؛ فقد فشل "شارلي شابلن" و"بيتر جاكسون" و"ستانلي كوبريك" في إكمال أفلامهم عنه؛ وتغلبت عليهم ضخامة البحث وتناقضات القصة والموضوع. وكما كان الحال مع كوبريك (الذي دُعي فيلمه: أعظم الأفلام الذي لم يُصنع قط)؛ ببساطة لأن الملاحم التاريخية أصبحت قديمة الطراز لدى استوديوهات هوليوود. وهناك مصاعب اخرى لدى تجسيد شخصية نابليون للجمهور الناطق بالإنكليزية، وعلى وجه الخصوص كانت النظرة السائدة لنابليون هي صورة كاريكاتورية بغيضة؛ فهو إما شرير أجنبي مندفع عازم على غزو بريطانيا، أو (والأكثر شرا) طاغية قاتل مروج للحرب، ونموذج أولي لأدولف هتلر. وهذه بالطبع ليست صورة نابليون في فرنسا؛ فبالنسبة لمعظم الفرنسيين (سواء شاؤوا أم أَبَوْا) فإن نابليون جزء لا يتجزأ من ماضيهم ومن هم عليه الآن؛ مع أن هذا لا يعني أنه يحظى باحترام عالمي.. ولا جديد في ذلك. يتناول الكثير من أدب القرن التاسع عشر؛ من بلزاك إلى ستندال، ومن فيكتور هوغو إلى إدغار كينيه؛ الجدل الطويل حول ما إذا كان نابليون أعظم رجل دولة في كل العصور، أم لا.. الرجل الذي جلب النظام إلى فوضى فرنسا ما بعد الثورة، وقادها نحو مصيرها بوصفها "الأمة العظيمة"؛ أو ما إذا كان غروره الجامح لم يجلب سوى الخراب والدمار.
حاول مخرجون عدة تتبع حياة نابليون في مسيرة أمجاده؛ لكن سكوت قدّم في فيلمه مسيرة فرسان ممتعة؛ لا يسمح فيها على مدى ساعتين ونصف لقواته بالتعثر في منتصف الطريق خلال تضاريس موحلة ذات مدلولات حقيقية أو ميتافيزيقية؛ وهي القضايا التكتيكيَّة، التي هزمت صانعي الأفلام الآخرين. تصور سكوت بصفاقة نابليون وهو يقصف الإهرام خلال الحملة على مصر، ويشهد إعدام الملكة "ماري انطوانيت" بعد الثورة؛ ولكن ليس إهانة الملك لويس السادس عشر من قبل الحشود؛ وهو أمر قد شهده نابليون فعليا على الأرجح. كما تحاشى المخرج وكاتب السيناريو "ديفيد سكاربا" (من باب المراعاة على الأغلب) أن يذكر إعادة نابليون للعبودية في المستعمرات. والأهم- صورة لمّاحة مشوقة للإمبراطور المنكوب من الممثل "خواكين فينيكس"، الذي يتناسب وجهه الساخر مع إطار القبعة ذات القرنين والزي العسكري ثلاثي الألوان. قدّم فينيكس دور نابليون كعبقري عسكري وطاووس المجالس، الذي لا ينحني على ظهر حصانه. قد يرى آخرون في نابليون شخصا حالما وحيدا؛ لكن بالنسبة لسكوت يشكل نابليون أحد أقطاب ثنائي قوي: إذ يقع بحماسة ويأس في حب "جوزفين" العاطفية العملية التي تلعب دورها "فانيسا كيربي".
الأيقونة المغرية
نابليون في تجسيد فينيكس هو الرجل اللدود الساخر والعقل المدبر المبتسم.. الدخيل المراقب.. الذكي المستغل لنقاط ضعف الآخرين، رجل الأعمال الرأسمالي الأولي؛ الذي ينتزع السلطة ويعزز الثقة، ويدعم النقود الورقية المطبوعة.. لاحقا قد يُطلق لقب "نابليون الجريمة" على بعض الأشخاص؛ لكن نابليون فينيكس كان كذلك بالفعل...! قدم سكوت مشهدا مثيرا لأول إنجاز كبير لنابليون كضابط مدفعي شاب: الهجوم الجريء على البريطانيين في طولون عام 1793؛ والذي عزز سمعته بوصفه مُخطِطا ستراتيجيا وكارها للإنكليز. بمساعدة راعيه وصديقه "باراس" (الممثل طاهر رحيم)، يركب نابليون الشاب جبهات العواصف المُعارِضة ويُشكل ضلع المثلث الثالث لنبضات الثورة والملكية العنيفة ويصبح هو نفسه عصارة القوة الخالصة؛ ويقمع الغوغاء بلا رحمة بــ "نفحة من رصاصته"؛ وهو ما قدمه لنا سكوت بشكل نابض.
كان نابليون دائما رمزا وأيقونة مغرية؛ فمنذ زمن "تولستوي" كان انسحاب الروس من موسكو وتراجع نابليون لاحقا رمزاً لمعجزة الخلاص لروسيا الأم؛ لا يكاد يشبهه الا معجزة القيامة نفسها. كان هتلر مفتونا به؛ لكن لا يزال مفهوم تبجيل نابليون (الذي ظهر بعد الحرب) قائما بالنسبة لأولئك الذين يريدون إلغاء أهوال القرن العشرين وإحياء ما يعدّونه مغامرة الحرب الرومانسية. بالنسبة لكوبريك في مشروعه السينمائي المهجور الشهير، ربما كان من المتوقع أن يحمل نابليون شتى صنوف الدلالات. لكن هذه لم تكن نية سكوت؛ فهو لا يحتجز الجمهور بمعانٍ ميتافيزيقية، وبالتأكيد لا يحجب متعة المشهد وإثارته قديمة الطراز.. وقد كان فينيكس هو المفتاح لكل شيء: أداء قوي مثل كأس النبيذ الذي يصدمه: متجملا.. متأملا، غاضبا ومنتصرا.
- صحيفة الاوبزرفر و"بيتر برادشو"- الغارديان البريطانيتين