محمد جبير
أنْ تكتب عن مبدع من مبدعي البصرة فإنّك تكتب عن مدينة تضجّ بالإبداع، وتبزغ فيها الكثير من الأسماء الإبداعيَّة، كأنَّ تلك الأسماء شموس وأقمار تضيء سماء المدينة، تلك الأسماء التي حفرت لها مكانًا في لوح الإبداع الخالد، هي المدينة التي أحبّ، تتداخل فيها الفنون كلّها، والأجناس الإبداعية كلّها، “الكلّ يعرف الكلّ، والفرد يناقش الفرد صديقًا زائرًا أو من أبناء المدينة، مَن كان يجالس الآخرين في مقهى “أبو مضر” سابقًا، ويتمشّى في العشار، أو شارع الوطني، أو مَن يتمشّى في شارع الفراهيدي ويجالس أحبابه في مقهى الأدباء.
لن أسعى إلى سرد مفصل للذكريات، ولا تقديم جردة مفصلة بالأسماء الإبداعية التي خرجت من هذه المدينة، التي كانت، وما زالت، مرتعًا خصبًا لتلاقح الثقافات وتزاوج الّلغات، وإطلاق الخيال الإنساني المبدع، بين مدّها وجزرها، نهارًا وليلًا، تنبت الحكايات، وتتوهّج السعادات، لتضيء ليل الأحبّة بكلّ ما هو جميل.
في القريب البعيد، رحل الشاعر الشاب أكرم الأمير، الشاعر الذي لم يمنحه الزمن الفرصة الكافية ليقول كلّ ما يمكن قوله بحقّ الزمان والحياة والناس والأصدقاء، فقد أثقل المرض جسده، وأجهز عليه في ريعان شبابه ووهج عطائه الإبداعي، وإذا كانت انطلاقته الأولى في ديوانه الشعري الأول “طيور تفضّل المشي/ 2014”، فإنَّ ما قام به الصديق الشاعر علي إبراهيم الياسري في جمع قصائد الشاعر الأخيرة في كتاب “الاسم الثلاثي لآدم” هو في حقيقته خطوة مضافة للمشروع الشعري الأول، حيث أخرجها من جهاز الحاسوب لتكون كتابًا ثانيًا في مسيرة العطاء الخاصّ بالشاعر.
هذا الكتاب الشعري الذي تصدرته كلمة للياسري جاء في مستهلها الآتي: “يحار قارئ الشعر حين يأسره غموض القصيدة الساحر مرّة، ويحار مرّات حين يغمره الوضوح الذي يشعّ من جمل يشعر أنّها مستعملة وقد ألِف سماعها، لكن وقعها وأثرها وآفاقها صار مختلفًا” “ص5/ المقدمة/ الاسم الثلاثي لآدم”، قد لا يختلف هذا الكتاب عن كتابه الأول، لكنّه يتقدّم عليه في عمق التجربة اليومية، وفي إثارة الأسئلة الوجودية التي تبعثها تلك النصوص، وإذا ما عدنا إلى تصدير الكتاب الأول “طيور تفضّل المشي” الذي كتبه الشاعر كريم جخيور، وحملت عتبته “الشعر ابن الحياة” فيها الكثير من الإشارات عن جدوى كتابة هذه المقدّمات، وما يصاب به كاتبها من حرج المجاملة والإخوانيات، إلّا أنّه يؤكّد في النهاية أنَّ هذا الشاعر “لا ينتمي إلى أحد، ولا يشبه غيره، وهذا دليل تفرّده”. “ص9 المقدمة”، وأرى أنّه في هذه الجملة التشخصية الدقيقة اختصر ما يريد قوله في صفحات، فالشاعر المبدع هو الذي يبحث عن تفرّده، وتجاوز السائد المألوف في الكتابة الشعرية، إذ يشهد بالآتي:
“شوارعنا البيضاء
بشر لم يخلقوا
تراب...
تراب...
لغة بسيطة وعميقة، لم تأخذ من محابر الآخر”. “المقدمة/ طيور تفضّل المشي/ ص9”.
هذه الإشارة يمكن أن تتّخذ طريقًا أو منطلقًا لقراءة تجربة أكرم الأمير الشاعر المبكّر بالرحيل، ويمكن إضافة البساطة والمباشرة في المفردة الشعرية، لكنّها ليست البساطة الهشّة، وإنّما اليومية الرشيقة الدالّة على نقاء الحياة، ونقاء الفكرة الإنسانية التي ما زالت تمسك بطفولتنا البكر، ولم يلوّثها غبار الشرّ المتطاير من جميع الجهات، يفيض إحساس الشاعر على الورق، وهو يدرك جيّدًا أنَّ حياته لا تشبه حياة الآخرين، ولن تطول في هذا العالم الصاخب الذي لوّث هواءه بأشعة النفايات النووية، أخذ يرصد مشهده اليومي في البيت والشارع، ليضع تخطيطًا لما يريد أن يقوله، ليس لذاته هو، وإنّما لذوات الآخرين “حبر قلمي أسود، ورقي أسود، أكثر مَن حولي عميان” “كرات ثابتة/ ص12”.
الشاعر هو الذي رأى، رأى نهايته، وأحسّ بها مبكّرًا، لذلك قدّم الإشارات بين ثنايا قصائده، لعل الآخر يشعر أو يدرك قيمة ما يقول، أو يتنبّأ به، هذا الرائي يبصر مصيره “ارسم قصيدتك الأخيرة، بين عالمين، دموع أمّك.. والكفن” “ص76 طيور تفضّل المشي”، هو لم يبح بما يريد قوله، وإنّما خاطب الآخر الذي لا يبعد عنه خطوات، الآخر الداخل الإنساني الذي يشاركه همومه، ويساكنه، ويفترش منامه، قلِقًا كان أم هادئًا، الشريك الذي لا ينافسه شريك إلّا الحبّ، ذلك الحبّ الذي يذرف الدموع، إذا فإنَّ “ولادة الأمطار: موت غيوم” “مصابيح طلع/ طيور تفضّل المشي ص33”.
هذا الشاعر يبقى مسكونًا في البحث عن معرفة “الاسم الثلاثي لآدم”، بعد أن أدرك أنَّ مفتاح الدنيا هو تفاحة، ويدرك أيضًا أنّه الأوّل على الرغم، لاحقًا، من “أنّه لا يوجد شيء اسمه الرقم واحد”، ولكن هناك “القبلة.. رقم واحد”، وهي مفتاح السعادة في صندوق الحياة الأسود “للقبلة الأولى، أاستجمع كلّ الصدق في قلبك، حتى لو كلّفك ذلك إشعال اللهب في إحدى ذكرياتك العزيزة” “ القبلة الأولى/ الاسم الثلاثي لآدم/ ص20”، على الرغم من قوله “فأنا أخاف على الذكريات من القطف، أو الذبول، أخاف أن يحيا بها النسيان” “ بين عالمين ص48”.
هذا الشاعر الذي تنساب قصائده انسيابًا عذبًا هو ابن “مدينة تجري من تحتها الأنهار”، لذلك يقول “سلام على البصرة، مدينة تجري من تحتها الأنهار” ص71، وهو الذي ختم ورقة نهاية كتابه الأوّل بالآتي “أعتقد أنَّ هذا يكفي، لقد متّ وانتهى الأمر” “عقم/ طيور تفضّل المشي ص82”، إنّها جملته الأخيرة التي قالها في كتابه الأوّل، ولم يزل آنذاك طائرًا يسعى أن يحلّق في فضاءات الإبداع، لكنّه أيضًا كان يدرك أنّه غيمة محمّلة بالقصائد، سوف تمطر في أيّ لحظة، فالمرض لم يمهله طويلًا، وإنّما زاد من عذاباته، ليكتب قصائد لوعة بعيدًا عن الحزن والبكائيات، وإنّما خلق صورًا لجماليات اليومي المشعّ، ليبقى بعد الرحيل خالدًا في الذاكرة الإبداعية الحيّة الأصيلة، وليس مادة جاهزة لتحيا بها “ذاكرة النسيان”، فمثله عصيّ على النسيان، فقد كان يمقت هذه الذاكرة، ويبحث عن بديل لها، فترك أثرًا إبداعيًا يديم حياته بعد الرحيل.
هو قال “أصغ لوقع أقدام الثواني
إنّها جيوش من الوقت
تنذر أعمارنا بالنفاد”. “قصائد مبتورة/ الاسم الثلاثي لآدم/ ص81”.
تلك هي كلمته الأخيرة، وعلى الآخر أن يقول كلمته كما يشاء، وكما يحبّ.