عندما ارتد هابرماس على نفسه

ثقافة 2023/11/29
...

 حازم رعد

يعد الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس، 94 عاماً، وريث مدرسة فرانكفورت النقدية، بل هو من أبرز أعمدتها وقاماتها شهرة، فهو فيلسوف المانيا الأول، ومن دعاة العقلانية في أفقها التواصلي القائم على النقاش والحوار بين الأطراف المختلفة، وهو الامتداد الادراماتيكي للتنوير الغربي بنزعته المعتدلة، وخاصة فيما كان يطرحه، في فكرته عن «ما بعد العلمانية».كتب هابرماس العشرات من الكتب والدراسات المختلفة في الفلسفة، وعلم الاجتماع، وصب اهتمامه على التواصل والاعتراف والهوية الدستورية «القانونية»، ولم يناصر يوماً الدول التي يصفها بالمستبدة «التي تحتكر أدوات السلطة والقرار» حتى أنه رفض جائزة مالية معتبرة لأفضل شخصية ثقافية نظمتها الامارات العربية عازياً ذلك إلى أن الامارات ليست ديمقراطية.
ولكن يبدو أن مواقفه كانت أحادية الاتجاه، فهي لا تعمل إلا عندما يتعلق الأمر بقيم الغرب والأفكار التي يطرحونها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحداثة، واتضح هذا الموقف الاحادي والمتعنصر المكتنز على عقد وأزمات نفسية من خلال توقيعه مع عدد من العلماء والأكاديميين الالمان على «بيان التضامن» الذي يعطي الحق للإسرائيليين بالقمع دفاعاً عن أنفسهم، كما اشار البيان إلى رفض الأقوال التي تنتقد الإبادة الجماعية التي تنفذها اسرائيل ضد الفلسطينيين، حيث يرى الموقعون كذبة الزعم بوجود إبادة جماعية.
لا يختلف أثنان «ممن يعرف هابرماس ونتاجه المعرفي» على أنه قامة فلسفية كبيرة، وأنه أمضى بالتفكير الفلسفي إلى حالة متقدمة من النضج والتطور، ولكن هذا لا يمنع من القول في انه اتخذ الموقف الخطأ، بل عديم الإنسانية، ففي قضايا مثل القضيّة الفلسطينيَّة محك اختبار للإفصاح عن الحقيقة واكتشاف المواقف.
وتبين أن هابرماس لا يمثل الموقف الفلسفي العام الذي، فجل ما يمثله هو التعبير عن موقفه الشخصي كأقل حد، فليست الفلسفة على حد تعبير الدكتور حسام الدين درويش موضوعاً حزبياً ليتخذ مواقف جماعية من خلالها ازاء الأحداث، وثم أن كتابة بيان بهذا الأسلوب الجماعي يدلل على تبني هذه المجموعة الموقف الرسمي لألمانيا، وهذا معناه وجود تأثير للسلطة على الأوساط الثقافية وقدرتها على التحريك بالاتجاه الذي تريد، وأن هؤلاء «الفلاسفة والمثقفين» لم يكونوا في صف المظلومين، وبذلك فقدوا صفة الانحياز للحقيقة، وتبددت شعارات المثقف (الملتزم والمنحاز والعام) لتحد محلها مثقف السلطة الذي يتماهى مع مواقفها الرسمية مهما كانت مخزية.
شيئان اكتنزت عليهما العريضة «البيان» الذي وقع عليه هابرماس هما الهولوكوست «المحرقة» ومعاداة السامية والمفارقة أن الحديثين جريا في عمق الجغرافيا الغربية – الأوربية، ولم يكن للمسلمين، ولا العرب اسهام فيهما، على العكس تماماً، وهذا ما ينطق به التاريخ أن المسلمين كانوا متسامحين مع المكونات الدينية والعرقية للحد الذي جعل من بلادهم عرضة لطمع الاعداء وغزوها مراراً.
ربما الذي حرك هابرماس ليس ذلك، وانما شعوره بالتأثم «الخطيئة» جراء المجازر التي انزلتها المانيا النازية «دولته الأم راعية الحداثة ومطلع فجر التنوير الأوربي» باليهود، ما حدى به لاستشعار الذنب وتحسس الخطيئة وراح يعالجها بطريقة العكس النقيض، فكان أن اعطى الشرعية للإسرائيليين لحرق الأبرياء العزل في فلسطين.
فيلسوف التواصل لم يستوعب الآخر، ولم يطق فكرة أن للفلسطينيين حقاً في العيش كما لغيرهم، فاستعجل الامضاء على وثيقة تفتيت التواصل لمصلحة الخصومة.
وراح يتفشى للبين أن ما صاغه هذا الفيلسوف من مفاهيم عن العقلانية والتفاهم والنقاش الجاد لا يعدو كونه ترف فكري كتب في بحبوحة دافئة داخل برج عاجي يجيد التمييز بين الأعراق، ولم يخلص من عقدة التفوق الغربي الضاربة بالقدم، وأن خطاب الاعتراف، خطاب فئوي مقيت لم يستوعب امكانية الحق للفلسطينيين، ولا في مقاومتهم لالة الحرب الصهيونية التي لا تفرق بين شيخ كبير وطفل صغير، ولا بين رجل وامرأة.
حتى أنه تجاوز كل خطوط القانون الذي يعتبره من الأهمية بمكان أن يحدد سمات الهوية الدستورية الجديدة للمواطنين بلا تمايز، فلجأ إلى القول بأن للإسرائيليين الحق في الدفاع عن أنفسهم ضارباً بذلك كل المنظمات والنواد الدولية، بل وكل مواثيق ومعاهدات السلام.
وهابرماس استحق هذا الرد، لا لكون موقفه سلبي تجاه القضية الفلسطينية وازاء قتل الأطفال والنساء، بل لأنه إرتد على كل المفاهيم التي ابدعها في سبيل ما اسماه «الاقلال من التطرف وازدراء الآخر والتخفيف من وطأة العصبيات» حتى أنه تنكر لصيغ الحوار والنقاش التي كان يصدح بها طوال حياته، ولم يتريث بإصدار مثل هذه الاحكام والتعميمات وناقش الأمر بروية وموضوعية، بل ارتد ارتداداً فضيعاً استحق من خلاله كل الردود والمواقف المضادة، لأن موقفه لم يكن إنسانياً، فضلاً عن أنه لم يكن موقف الفلسفة التي عرف عنها بوقوفها بوجه الاستبداد والظلم وقتل البشر، خاصة وأن مواقف فلاسفة آخرين كانوا أكثر حرصاً على قول الحقيقة، كموقف الفيلسوفة الامريكية جوديث بتلر، وموقف الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك الذي كان موقفه حاداً في نقد إسرائيل وسياساتها العنصرية، وخاصة موقفه الأخير في معرض فرانكفورت للكتاب، حيث ألقى كلمة ازعجت الكثير من الحاضرين، وقوبلت باستهجان، ووصل الأمر إلى مقاطعته مرتين من قبل مفوض معاداة السامية اوفه بيكر وخروجه من المعرض، وكذلك موقف نانسي فريزر وغيرهم من الفلاسفة، ولكن يبدو أن فيلسوف التواصل فقد بوصلته وارتد القهقرى على متبنياته الفكرية، وارتفعت فيه الروح الوطنية المتوافقة مع موقف المانيا الرسمي المساند لإسرائيل، وبذلك وضع لوثة «نقطة سوداء» في تاريخه الفكري. من هنا يتوضح لنا صوابية رأي فريدريك نيتشه في كتابه «نقيض المسيح» الذين بين فيه حقيقة الإنسان الأوروبي، وأن (التقدم مجرد فكرة حداثية، يعني فكرة خاطئة، وأوروبي اليوم يظل من حيث قيمته أدنى بكثير من أوروبي عصر النهضة). ولم تتمكن كل تلك المفاهيم والقيم التي تتحدث عن السلام والتسامح وقبول الآخر، ترويضه وتغيير محتواه والدفع به بعيداً عن عنصريته وانحيازه للأقوى ولـ (صاحب المدفع الأكبر) كما عبر نابليون بونابرت، فإن مواقف هابرماس ومن هم على شاكلته تأتي في جزئه الأصيل وخلف امين للتفوق الأوروبي.