سامر المشعل
فيروز الظاهرة الاستثناء في الغناء على مختلف الأصعدة، فعلى صعيد التذوق الموسيقي، عندما تتكرر الأغاني، ويكون هناك إسراف في بثّها، فإن إذن المستمع تملّ وتمج هذه الأغاني وتزيغ عنها بفعل التخمة، إلا السيدة فيروز، فإننا نعطر صباحاتنا كل يوم بسماع صوتها، فيوقظ فينا إشعاع الأمل، ونشعر مع صوتها المنساب بخجل بالهدوء، الذي يريح أعصابنا المشدودة ويبث فينا طاقة روحية للإقبال على الحياة.
احتفى محبو جارة القمر الاسبوع الماضي بمناسبة وجودها في حياتنا وبلوغها الـ 89 عاما، فهي هبة السماء لأهل الارض، التي تخفف عنا وحشة الأيام وتبدد كآبتها، وعلى حد وصف الموسيقار محمد عبد الوهاب " أنها صوت ملائكي". غنّت فيروز وهي صغيرة، وقد تنبأ لها الفنان حليم الرومي، والد المطربة اللبنانية ماجدة الرومي، الذي اكتشفها، بأن يكون لها شأن كبير في الموسيقى العربية، قائلا لها:" سوف تخرجين من الكورس ويكون اسمك فيروز، وتكونين النغم الجديد في هذه الامة ". وهو أيضا من منحها الاسم الفني فيروز، واسمها الحقيقي هو نهاد رزق. فيروز التي توارت عن الصحافة والإعلام، ولم تجرِ في حياتها إلا لقاءات محدودة، وكتبت على باب منزلها ممنوع التصوير، كي لا يخترق المقربون والأصدقاء حياتها الشخصية، وهي حالة استثنائية بعالم الفن، فأغلب المطربين يوظفون الاعلام والسوشل ميديا في سطوع نجوميتهم، وإذا غاب الإعلام عنهم لبضع سنين يصبحون نسيا منسيا، بعكس السيدة فيروز التي زهدت بالإعلام، وظلت نجمة فوق العادة يلمع بريقها على الدوام، وقد أطلق عليها الشاعر سعيد عقل لقب "سفيرتنا إلى النجوم". وآخرون لقبوها بـ " جارة القمر" نسبة الى أغنيتها "احنه والقمر جيران".
فيروز أكثر مطربة غنت للقدس مؤمنة بحق الفلسطينين بالعيش بأرضهم بعزة وكرامة، رافضة الاحتلال الاسرائيلي، وظلت وفية للقضية الفلسطينية طوال حياتها، غنت لها العديد من القصائد والأغاني منها: زهرة المدائن، القدس العتيقة، سنرجع يوما، القدس لنا..". ولم نشعر يوما أن فيروز من الديانة المسيحية من الطائفة الكاثوليكية، ولعل الكثير ممن يعشقون صوتها لا يعرفون ديانتها، لأنها تؤدي رسالة إنسانية تسمو على الطائفية والعرقية والمناطقية من خلال فنها ومواقفها.. ترفض الاستلاب الإنساني والظلم، مجسدة انتماءها العروبي عبر غنائها لكل العواصم العربية، رافضة الغناء إلى حكامها. فيروز هي الصوت المعبّر لمدرسة الرحابنة المتمثلة بزوجها عاصي وأخيه منصور، ومن ثم نجلها زياد.. هم مدرسة موسيقية متكاملة، شعراء وملحنون وموسيقيون، وجدوا في صوت فيروز المذاق السحري، الذي يعبّر عن مواهبهم في إيجاد مدرسة جديدة في الغناء العربي، تمتزج فيها الموسيقى العالمية بنكهة شرقية، لتعبر عن مفردات الحياة اليومية ببساطة وتلقائية ابداعية. نجد في أغاني فيروز عنوانا مشتركا هو الانتظار والأمل.. انتظار شادي، انتظار حنا السكران، انتظار الصيف والشتاء، انتظار من لا يأتي.. ليتهادى صوتها بين الانتظارات ينث الحنين بعودة السلام.. الغائبين.. العمر الذي انفرط.. وهي تبحث عن الفردوس المفقود لبيروت والقدس.. وأن تغتسل بغداد من همومها بضوء القمر.